اخترق التقاليد الكلاسيكية، وأعطى الضوء واللون أهمية خاصة منبثقة من جماليات الطبيعة السورية ورهافة حس شعبها، فوجد أن المدرسة الانطباعية تلبي حاجاته اللونية والضوئية، وهو المشبع بشمس الشرق وغنى التنوع اللوني وتراثه، ليصبح رائد الانطباعية الأول في الحركة التشكيلية السورية، هو الفنان الراحل ميشيل كرشة.
وبمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله نستذكر أهم محطات ومشاريع ابن مدينة دمشق الذي ولد في حي القيمرية الشعبي عام 1900 وظهرت هوايته في التصوير مبكراً متجاوزة حدود الرسم والتلوين ثم غادر إلى فرنسا ودرس التصوير الزيتي بمدرسة الفنون العليا في باريس بين عامي 1919 وحتى عام 1923 وتتلمذ على يد سيمون لوسيان وأنهى دراسة فن الحفر والطباعة اليدوية بمدرسة أستين ما بين عامي 1923 و 1925 وعاد الى سورية عام 1925.
أغلب لوحاته مستوحاة من الطبيعة وقد وجد نفسه وجهاً لوجه مع كبار الفنانين في سورية من رواد الفن الكلاسيكي التسجيلي أمثال توفيق طارق وسعيد تحسين ومنير النقشبندي، ولكنه حذا بتعاليمه الانطباعية القيم الفنية وفاز بالجائزة الأولى في معرض فناني سورية الذي أقيم بدمشق عام 1926.
كانت سورية موجودة في جميع أعماله شكلاً وموضوعاً ومضموناً لتغدو الغاية والهدف فنفذ عدة لوحات تتحدث عن الأحداث التاريخية المرتبطة بتوقيت محدد مثل سورية تحت الاحتلال الفرنسي ولوحة نكبة فلسطين ولوحة العدوان الثلاثي على مصر وفي مجال التاريخ الحضاري قدم لوحات للحضارات التي قامت في المواقع الأثرية بسورية من قلاع وحصون ومدن ومعابد وقصور، كما أكد في لوحاته كل ما هو مرسوم في الضوء وتحت الشمس مركزاً على النور والظل، فكان حريصاً على تثبيت جمالية الألوان في لحظة زمنية محددة واستطاع أن يصل إلى خصوصية لونية قادته إلى انطباعية خاصة تعامل من خلالها مع الانفعالية والعاطفة بعفوية وتلقائية بعيداً عن العقلانية.
صمم كرشة العديد من الطوابع البريدية خلال عشرينيات وثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي وحاز على أثرها الجائزة الأولى الدولية لتصميم الطوابع عام 1933 عن مجموعات اثنين وخمسين دولة في معرض “فلوريدا” وقلد أيضاً على أثرها وسام الاستحقاق السوري.
عرف بإنتاجه الغزير أكثر من ألف لوحة موزعة بأهم متاحف العالم، ولم ينقطع ذلك الإنتاج حتى رحيله المفاجئ وهو يعمل على تجهيز مجموعة كبيرة من أعماله لعرضها في متحف المتربوليتان بنيويورك في أمريكا عام 1973، وهو تاريخ توقيع آخر لوحة رسمها بعنوان أزهار الختمية اختزل فيها كل معارفه التي اكتسبها أو تعلمها، إضافة إلى الخبرات التي تراكمت بالممارسة خلال خمسة عقود وهي عمر تجربته الفنية.
كتبت عن تجربته العديد من الصحف والمجلات الفرنسية والسورية، وأقيم له في المتحف الوطني السوري معرضان كان الأول عام 1954 بحضوره والثاني عام 2006 لإعادة التذكير بهذه التجربة المميزة والمهمة في مسيرة الحركة التشكيلية السورية.
عمل كرشة مدرساً للتربية الفنية في ثانويات دمشق حتى تقاعد عام 1949 وشارك في سلسلة من الأنشطة والفعاليات التي نفذتها تجمعات فنية في سورية، وساهم في تأسيس جمعية محبي الفنون التشكيلية عام 1950 وحصل على العديد من الجوائز منها ميدالية في البينالي الثالث بالإسكندرية لدول البحر المتوسط 1959، ووسام وزارة الثقافة بالإقليم الشمالي السوري الجمهورية العربية المتحدة 1960.
رحل كرشة عام 1973 بعد أن طبع بصمته الأنيقة في سجل الخلود رائداً للانطباعية والإبداع الفني الذي انصهرت في بوتقته نبضة القلب الرهينة وشهقة الضوء وهسهسة الموسيقا الدافئة.