سعدالله الخليل
لا يمكن لأي عاقل اعتبار وفاة وديع جورج وسوف حدثاً عابرًا يمكن المرور عليه مرور الكرام لأسباب عدة، تبدأ بجدلية الوسوف وشعبيته الكبيرة، ولا تنتهي عند المفاجأة التي شكلها الحدث عند الجمهور والصحافة، التي لم تتعاطَ مع العمل الجراحي للراحل. وهذا أمر طبيعي لكونه قصة عائلية بحتة لا تستوجب التغطية، مروراً بقلة ظهور جورج وسوف عبر المنابر الإعلامية، والعلاقة الكبيرة بين الراحل والأب، مما جعل من وفاة وديع حديث الأوساط الفنية والصحافية والشعبية وحتى السياسية، بحيث أظهر حجم التعاطي الكبير مع الحدث مكانة جورج وسوف كرقم صعب في هذه الأوساط.
فجأة فتح الموت أبواب الوسوف المغلقة أمام الإعلام على مصراعيها، وفي لحظات غير طبيعية وأمام رهبة الموت، وجدت وسائل الإعلام ضالتها لاقتناص ما عجزت عنه لعقود، عن حياة رجل أطرب وأسعد وأضحك وأبكى الملايين بفنه، وبقيت تفاصيل حياته في لحظات قوتها وانكسارها في أن واحد خفية عن الملء.
السعي المحموم لقسم كبير من وسائل الإعلام لمواكبة الحدث، والإصرار على تقديم تفاصيله، سعياً وراء هوس التريند والعواجل الفارغة، أوقع تلك الوسائل لقلة خبرتها، واستسهال العمل الصحافي بشكل عام والفني بشكل خاص، في مطبات كبيرة تتكرّر عند وفاة كل مبدع، أولها أنها تعتقد أنها تسعى لمواكبة تفاصيل الحدث، ولكن بالحقيقة أننا أمام حدث تفاصيله محدودة، ومهما تعددت التفاصيل لن تغير بمسار الحدث، فلا الحضور يعلو ولا البكاء يسمو أمام رهبة الموت، ولا ردود الفعل تفوق التوقعات، فما الجديد بعناوين من قبيل “انهيار جورج وسوف في عزاء الوديع” أو “بكاء وغناء في عزاء الوسوف”، والقائمة تطول من العناوين التي تضع أصحابها في خانة النواحين، الذين يكثرون من صف الكلام عن أي فقيد بعض النظر عن مكانته التي يجهلونها في الكثير من الأحيان، بل وتتشابه العبارات في كل مجلس ينتقلون إليه، وهو بالطبع ما يختلف عن الرثاء الصادر عن العارفين بالراحل، والمقدرين قيمته مهما علت أو تواضعت، بحيث تصبح المناسبة فرصة لتقديم ما هو جديد أو على الأقل التذكير بمناقب الراحل.
رمت الصحافة الفنية تاريخ يمتد لعقود من حياة الوسوف، بما شهدتها من انتصارات جعلت منه رقماً صعباً، وانكسارات وقف بعدها متغلباً على أوجاعه، وصوّرته الأب المفجوع بابنه ورفيق دربه، وهذه الصورة طبيعية لأي أب يقف مكانه.
في الصحافة تعلمنا أن يوضع الحدث في سياقاته الطبيعية والصحافي الذكي من يربط الحدث وسياقاته، ليحصل على مادة ثرية متميزة، وفي حالات الموت حيث لا تفاصيل مهمة ولا تطورات للحدث تستحق الوقوف عليها، فإن العودة إلى التفاصيل وهي بحر كبير في حياة الوسوف، تقدم للصحافي والمتابع ما هو أهم من لون ثياب فلان ومكياج فلانة ودموع الفنانة وابتسامة منافستها.
على الإعلام أن يحول حدث الوفاة أي وفاة، إلى سياق يبني عليه مواد إعلامية تظهر ما هو أبعد من الموت، وفي حالة الوسوف تظهر أنه ليس الحدث الأول القاسي في حياة رجل عرف المرض، والانتكاسات وعاش صعوبات قاسية لا تقل صعوبة عن الموت وتجاوزها، وبدلاً من الاستثمار بالموت عليها أن تجعل منه فرصة لشدّ عزيمة أب مفجوع بولده، ليستطيع الوقوف مجدداً في مقبلات الأيام، حين يعود ليراجع ما نشر عن وفاة من يعتبره الهواء الذي يتنفسه، لا أن تزيد من حزنه حزناً وجرحه إيلاماً، وتقدم للجمهور في الوقت ذاته مادة غنية فتكسب احتراماً مضاعفاُ.
لا نلوم الوسوف إن وصف بعض الإعلام في مقبلات الايام بأبشع الأوصاف فهو على حق، ولا نلوم أي مبدع إن زاد في تقنين ظهوره الإعلامي، فحاله الابتذال التي يشهدها الإعلام، والفني بشكل خاص، تجعل مَن يحترم نفسه أن يفكر ملياً قبل الظهور.