د. عصام نعمان
أزمة لبنان المزمنة تطوّرت الى محنة كارثية. أهل السلطة في عجز متمادٍ عن استنباط مخارج منها. أهل المعارضة متشرذمون وعاجزون تالياً عن التوافق على صيغة عملية لتعزيز القدرات الشعبية على مواجهة أهل الشبكة الحاكمة ونظام المحاصصة الطوائفي بغية إكراههم على تقديم التنازلات السياسية والاقتصادية اللازمة للخروج من المحنة.
هذه المشهديّة القاتمة تتواصل بأبعادها الكارثيّة:
أولاً: انسداد سياسيّ شديد استولد بدوره:
- شغور في سدة رئاسة الجمهورية منذ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لم يتمكّن أركان الشبكة الحاكمة من ملئه بانتخاب رئيس جمهورية جديد، بالإضافة الى عدم توافر بوادر للتوافق على مرشح تسوية في المستقبل المنظور.
- تعثّر حكومة تصريف الأعمال (المستقيلة بحكم الدستور منذ انتخاب مجلس النواب الجديد في 5 أيار/ مايو الماضي) وعجزها تالياً عن الاجتماع لاتخاذ قرارات ضرورية لمعالجة مشاكل اقتصادية واجتماعية طارئة واستثنائية.
- شلل مجلس النواب بسبب تشرذم أعضائه وتوزّعهم على تكتلات عاجزة عن التوافق على قواسم مشتركة ما أدى الى افتقاد أكثرية متماسكة لبتّ أي قضية او استحقاق دستوري او سياسي او اقتصادي.
ثانياً: تفاقم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي ما أدّى إلى:
ـ عدم توافر التيار الكهربائي لمدة لا تقلّ عن 24/20 ساعة في اليوم.
ـ عدم توافر الأموال في الخزينة لتسديد مستحقات القضاة والموظفين والعسكريين ومتوجبات المرافق العامة.
ـ تلاشي القدرة على حماية سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي.
ثالثاً: انشغال الدول الكبرى بمتاعبها الداخلية والصراعات في ما بينها على الصعيد الدولي ما أدّى الى انحسار فعاليتها ونفوذها كالولايات المتحدة وفرنسا او أخرى إقليمية كالمملكة العربية السعودية في التأثير لمصلحة حلفائها اللبنانيين بغية ترجيح كفة مرشح موالٍ لسياستها او محاربة آخر معادٍ لها الأمر الذي خلّف أركان الشبكة الحاكمة متروكين لحالهم في صراعاتهم التقليدية على السلطة والنفوذ والمصالح. مع العلم أنّ انحسار فعالية القوى الخارجية في هذه المرحلة لا يعني توقفها عن التدخل سياسياً وإعلامياً ومالياً لشدّ أزر حلفائها المحليين في صراعاتهم المحتدمة ضدّ خصومهم السياسيين.
من المفترض، والحالة هذه، أن تشعر القوى المعارضة بكلّ تلاوين النظام السياسي الفاسد وشبكته الحاكمة بوطأة التحديات الماثلة وأن تبادر الى اتخاذ المواقف والتدابير اللازمة لمواجهة الأخطار المحيقة بالبلاد والعباد، فماذا تراها فعلت؟
عقد الجسم النقابي بدعوةٍ من الاتحاد العمالي العام ونقابات المهن الحرة وروابط التعليم ونقابة المعلمين اجتماعاً موسعاً “للبحث في الخطوات المقبلة والعاجلة”، أطلق في نهايته ما أسماه “البيان الرقم واحد”، داعياً المعنيين الى “انتخاب رئيس للجمهورية دونما تأخير أو تسويف وإطلاق عملية الإنقاذ فوراً (…) وإلاّ فإنّ كلّ الخطوات والتحركات التي كفلها الدستور ستكون متاحة للتنفيذ جراء تقاعس المعنيين عن القيام سريعاً بواجباتهم الدستورية والوطنية إزاء المواطنين والوطن والتاريخ”.
موقف جيد من حيث المبدأ، لكن لا مردود عملياً له لأن لا فعالية شعبية وسياسية وازنة للقوى العاملة تمكّنها من إكراه أهل السلطة على تنفيذ مطالبها المحقة.
من جهة أخرى، تنادى فريق من المفكّرين والقياديين الوطنيين المناضلين الى عقد حلقة نقاشية حول الأزمة المستفحلة وسبل الخروج منها انتهت الى التوافق على انّ أخطر ما يواجه البلاد من تحدّياتٍ هو تزايد احتمال انزلاقها الى حال من التقسيم السياسي والجغرافي يصعب معه، إنْ لم يكن يستحيل، تحقيق أيّ من المطالب التي يدعو اليها “البيان الرقم واحد” للقوى النقابية، خصوصاً أنّ ثمة قوى سياسية معروفة باتت تدعو علناً الى تكريس حال الانقسام المستشري باعتماد نظام الفدرالية.
ما العمل إذاً؟
قلتُ للأصدقاء والزملاء المتحاورين إن الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هبطت بالبلد الى القاع وما زالت تواصل الهبوط ما يجعل الخروج من المحنة بالغ الصعوبة، وان ما تستطيع القوى الوطنية النهضوية الحيّة فعله في مختلف مناحي الحياة السياسية والنقابية لا يتعدّى التوافق على صيغة عملية للتعاون في ما بينها على اعتماد خطين:
الأول، العمل على توليد تحالف شعبي وسياسي عريض القاعدة ببرنامج سياسي واقتصادي يتضمّن الأولويات الأكثر إلحالحاً في الوقت الحاضر ليقوم بما يتيسّر له من قوة وفعالية بعقد ورشات بحث وندوات نقاشية وتحركات شعبية لتوليد حركة سياسية ميدانية للضغط على أهل السلطة بغية حملهم على الوفاء بالاستحقاقات الدستورية وتقديم التنازلات السياسية والاقتصادية اللازمة لإزالة فساد ومفاسد أهل نظام المحاصصة الطوائفي وشبكته الحاكمة وحملهم، بالتعاون مع عناصر شريفة ونظيفة صمدت في بعض الإدارات والمؤسسات العامة، على تحقيق الأولويات الأكثر إلحاحاً.
الثاني، المبادرة بالتوازي مع الخط الأول، الى تعبئة قوى التغيير الحقيقية الملتزمة تحقيق مطلب مقاومة التقسيم والفدرالية والعاملة لبناء دولة المواطنة المدنية مهما طال الزمن، الى انتخاب مجلس تأسيسي للحوار الوطني بمعزل عن أهل السلطة من أجل الإسهام في وضع أسس وآليات الخروج من نظام المحاصصة الطوائفي الى رحاب دولة المواطنة المدنية المنشودة.
قد يقول قائل: إنّ الطريق الى بلوغ هذا الهدف طويلة جداً.
صحيح، لكن رحلة الألف ميل تبدأ دائماً بخطوة أولى.