بدت على القوات الروسية في العملية العسكرية في أوكرانيا مظاهر ترهل وتقادم التدريبات والمعدات، والهيكليات، وتعاني من ثغرات وعدم قدرة على إحكام دفاعاتها وخطوط الجبهات مما وفر للقوات الأوكرانية التي دربت على يد الناتو وزوّدت بأحدث الاسلحة ويقودها خبراء أميريكيون ومن نخبة الأطلسي ويديرون العمليات ميدانياً، ويؤمنون الاستطلاع والتجسس، فتتوفر الفرص والظروف لتحقيق مكاسب على الأرض.
العمليات التكتيكية رافقتها وقدمت لها حملات اعلامية وترويجية هائلة الكلفة والخبرات والمستويات، مسنودة بتخلف وعجز الإعلام الروسي عن المواجهة والسبق، ما يصور القوات الروسية بالعاجزة والمنكسرة، والقابلة للهزيمة السريعة، كما نجحت الأجهزة الاوكرانية وحلفاؤها باغتيال بنت الكسندر دوغين في تفجير استهدف سيارتها في موسكو وجاء تفجير سيارة على جسر القرم ليعزز الحملة الاعلامية، فعززت تشكيك الرأي العام خاصة الواقع تحت تأثيرها بقدرات روسيا العسكرية وبخبراتها واسلحتها. وتكثر الآراء والتسريبات التي تتحدث عن قرب هزيمة تاريخية لروسيا وانكسارها، وربما انقلاب او تمردات واسعة ضد بوتين لمعاقبته على المغامرة غير المحسوبة التي ساق روسيا اليها وأقلق العالم من احتمال حرب نووية تكتيكية او تدميرية تعيد البشرية الى العصر الحجري بحسب رأي تلك الجهات.
اين تقع الحقيقة؟
وكيف تسير الامور؟
ولمن سيكتب النصر في واحدة من أعنف جولات الحرب العالمية العظمى الجارية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في إقليم العرب والمسلمين، وقد انتقلت الى ساحة حرجة في اوكرانيا وبقلب اوروبا وتحولت من الحرب العسكرية بفروعها المختلفة الى مستوى الحرب الشاملة؟
للتعرف الى احتمالات مسارات الحرب ومن ينتصر ومن يهزم لا بد من التذكير بقواعد ومناهج تعريف الحرب والمنتصر والمهزوم واستعراض المؤشرات والوقائع وتصنيفها.
فالحرب الشاملة؛ هي الحرب التي تشمل كل نطاقات ومجالات القوة وقدرات الأمة والدولة وتمتدّ جغرافياً الى مختلف القارات والجغرافيا، وتستخدم فيها كل الوسائل والوسائط المتوفرة ويجاوز فيها المحاربون القواعد والقوانين الجارية.
الحرب بين روسيا والأطلسي في مسرح أوكرانيا هي في تصنيفها ومساراتها ومستوياتها حرب شاملة: فهي حرب عسكرية وأمنية وسيبرانية وسرية وإعلامية وثقافية واقتصادية ومالية وليس من مجال أو مستوى لا تجري فيها وبأشد ما يكون من قوة وعصف.
الاشتباك المسلح مسرحه الأوكراني وجبهته ألف كيلو متر، وتجري معارك وحروب باردة وسرية واشتباكات وتوترات في مسارح واسعة أخرى في الشرق وأفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية.
والحرب السرية والسيبرانية على امتداد الشبكات والمساحات ولا هوادة فيها، أما الحرب الاقتصادية فقد بلغت أقصى ما يمكن وتشمل كل مناحي الحياة وفروع الاقتصاد والمال ووصلت الجرأة فيها والخروج عن تقاليد وضوابط الحروب على نسف أنابيب الغاز وتعطيل خط ستريم ٢؛ وهذه غير مسبوقة في الحروب ما يفتح سياقاً يجيز الرد واستهداف الكابلات والاتصالات والأقمار الصناعية والشبكات ووسائط التواصل والجيو – تواصلية وإقفال الممرات والمضائق إضافة لاستهداف البنى التحتية وقطاعات الانتاج وهكذا.
بوتين يعرف وأعلن ان روسيا في حرب شاملة، واعلن ما يريد وقال؛ في مناسبة ضم المقاطعات الاوكرانية ان للحرب هدفاً ونتيجة تتجسّد في توليد عالم جديد غير عالم الانكلو – ساكسون وليس فقط توليد نظام عالمي جديد. واكد ان أحداثاً ثورية تجري، ووصف حربه بالمقدسة دفاعاً عن قيم الإنسانية في وجه الاستعمار والليبرالية التدميرية، وفي مواجهة عالم ينهار وقد شاخ وعبث بالحياة البشرية والقيم والأديان واتهم عالم الانكلو – ساكسون بالإبادات وتدمير القيم والأديان والاخلاق، وغالب الظن أن الاطلسي يعرف ما هو جار، ويخوضها كحرب شاملة وليست فقط حرباً عسكرية بل هي حرب حياة او موت، فإما روسيا وعالمها الأوراسي او أميريكا والاطلسي والعالم الانكلو – ساكسوني.
ثم يتقرّر الرابح والخاسر في الحرب استناداً الى تحقيق او عدم تحقيق الاهداف المعلنة.
فلا تقاس الحروب ونتائجها بمدتها وكلفتها ومسارحها وعملياتها ونتائج معاركها التكتيكية والمغطاة بحملات ترويج وتضليل إعلامي، لهذا قيل: إن الحرب جولات لك وعليك.
والحرب تتقرّر بنتائجها ويتثبت المنتصر والمهزوم فيها، عندما تضع أوزارها ولا يجوز الحكم عليها وتقرير نتائجها بناء على مجريات معارك جزئية وتكتيكية – عملياتية.
ولا تقرر نتائج الحرب الشاملة والعالمية العظمى لتوليد العالم الجديد بقياس نجاح عملية في الحرب السرية كاغتيال دوغين او تفجير سيارة على جسر القرم. وهذه اعمال تتقنها العصابات والمافيات وأصيلة في حروب العصابات والمقاومات وشركات الأمن والمرتزقة وقد وقعت وتقع في كل مكان وزمان وتستهدف دولاً عظمى ولا تؤدي لانهيارها واو خسارتها للحرب، واقرب الأمثلة في احداث ١١ ايلول ٢٠٠١ في أميركا نفسها وهي تتربع على عرش ادارة العالم متفردة وبلطجية.
اما حسم الحروب في الاعلام وحملات التضليل والاشاعة فقد اختبرت في سورية ومع المقاومة ومع إيران وثبت انها في العالم الافتراضي بينما العالم الواقعي مختلف جوهرياً.
في المعطيات المادية ومؤشرات النصر والهزيمة يمكن للعقلاء التثبت من المعطيات والواقع على النحو الآتي:
١- حققت روسيا من عمليتها العسكرية في اوكرانيا جل أهدافها المعلنة؛ تدمير البنية العسكرية – انتزاع المقاطعات الأربع – منع اوكرانيا من دخول الناتو، وتحويلها الى دولة فاشلة وعبء على الأطلسي ومحايدة غير مسلحة. وفي التدقيق الواقعي في المعطيات يمكن الجزم أن نسبة عالية من الاهداف تحقق.
فماذا يعني ان الأوكرانيين ومعهم الاطلسي بكل ثقله ينجحون بخرق واستعادة ٣٠٠٠ كلومتر من ١٠٦٠٠٠ كيلو استولت عليها روسيا؟؟ والحرب سجال ومازالت اوارها مشتعلة وربما في الربع الساعة الاولى لها؟؟!!
٢- في الحرب المالية والاقتصادية الشاملة مالت الكفة بقوة لصالح روسيا باعتراف قادة وخبراء الأطلسي. وفي معطيات الواقع وأحداثه المعيشة وقائع ثابتة؛ فوضع الدولار واليورو بمقابل الروبل شاهد ناطق وازمات اوروبا التموينية والاقتصادية واضحة الادلة بما في ذلك التضخم والركود المفرطان في الاقتصاد الاطلسي الليبرالي، بينما روسيا والصين وايران ومحورهم المتنامي والمتصاعد في افضل الاحوال والارقام دالة. والاهم ما كسبته روسيا في اوبك+ وهذه تحسب من التحولات الفرط استراتيجية فهل كان احد يتوقع ان تنقلب السعودية والامارات على اميركا وترفض إملاءاتها، بل تتضامن مع روسيا بتعطيش السوق وفي عز الطلب والحاجة الأميركية والأوروبية وعشية الانتخابات النصفية ودخول اوروبا فصل الصقيع بلا محروقات…؟
٣- في مؤشرات القوة والنفوذ العالمي، تقدّم الوقائع والمعطيات صورة واضحة عن التحولات الاستراتيجية فأميركا بعد ١١ ايلول ٢٠٠١ كانت تفرض مشيئتها وقوانينها وقراراتها ويستجيب لها اكثر من ١٨٨ دولة وفي حربها على سورية وإيران حشدت ١٣٨ دولة أما مع روسيا فلم تستطيع جمع ٣٠ دولة تلتزم قراراتها وفرض الحصار وقد خرج من تحت نفوذها كبار وعمالقة كالهند والصين ودول الخليج ومصر والجزائر ودول آسيوية وتفقد سيطرتها في أميركا الجنوبية وأفريقيا لصالح روسيا وحلفائها والمعادين لأميركا وحسم الانتخابات البرازيلية لصالح لولا سيشكل ضربة كاسرة في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض بعد صمود فنزويلا وكسب اليسار لبلدان عديدة وخسارة أميركا لحروبها وخططها هناك.
٤- في الحرب المالية تتعاظم المؤشرات والأدلة على تحولات عالمية ستكون صادمة ونوعية، فاستبدل اكثر من نصف العالم الدولار ونظام السويقت الأطلسي بالعملات الوطنية والتبادلات البضاعية وبمنظومة مير الروسية ومنظومة الصين وتتحفز السعودية لضربة كاسرة للدولار بتسعير النفط باليوان والروبل والعملات الوطنية، كما خرجت الهند من هيمنة الدولار وتتبادل بالروبية الهندية مع روسيا والصين ومنظمة شنغهاي.
٥- في حرب الغاز والنفط والحصارات انقلب السحر على الساحر، فأمنت روسيا بدائل بينما أوروبا تعاني وتدفع لأميركا اربعة اضعاف سعر الروسي وأميركا تفقد مخزونها الاستراتيجي وتعاني من ارتفاع اسعار المشتقات والكهرباء ومدخلات الانتاج وتتعطل سلاسل التوريد وتتوقف مصانع أميركية واوروبية عن العمل.
٦- في الحرب السيبرانية تفوق روسيا وحلفائها مشهود.
7- في الحرب السرية والاغتيالات واستهداف البنى التحتية والحيوية بالتفجيرات لم تبدأ روسيا ومحورها بتفعيل قدراتها، وعندما تبدأ سنرى العجائب وربما تحاول روسيا بذكاء مفرط استبدال الحرب الإرهابية – السرية بحرب اجتماعية كاسرة بتنشيط التحالف وتخليق الظروف المناسبة لصعود القوى المعادية لأميريكا في اوروبا والعالم “ايطاليا نموذجا – الاضطرابات والتظاهرات في فرنسا وألمانيا”، وتعمل روسيا وحلفها لهز استقرار واشغال أميركا نفسها في بنيتها وازماتها مع الانتخابات النصفية بينما أميركا وحلفها تحل التخمينات والرهانات في العالم الافتراضي مكان الواقع وتشيع عن توترات واحتمالات تفلت وانقلاب في روسيا لا اثر ولا اساس له.
8- في الحرب الثقافية والقيمية تبدو الغلبة لروسيا بسطوع وقوة. فبينما تتحول أميركا الى عدوة الشعوب والمتسبب بكوارث اوروبا الاجتماعية تقدم روسيا نفسها المنقذ من أميركا والنازية والمثلية الجنسية وهكذا دواليك.
ففي الواقع المعيش يتقدم السؤال؛ ماذا وأين حققت أميركا مكاسب منذ اندلاع حرب اوكرانيا؟؟؟
وفي سياق آخر لفهم الجاري وتقدير التطورات والإجابة على سؤال هل تهزم روسبا ومن ينتصر؟
يمكن تفعيل قواعد التحليل العلمي والمنهجي في سبر أغوار وسيناريوهات المستقبل والقاعدة تقول؛ لتعرف ما سيكون خلال عقد او عقدين في المستقبل عليك ان تدرس ما جرى في المدة الموازية ذاتها من الماضي والمطلوب دراستها فمنذ صعود بوتن وهو يحقق الانتصارات ولم يهزم في واحدة من المعارك بينما أميركا منذ عقدين ونصف وحلفها يهزمون في كل المعارك والحرب وفي التالي امثلة؛
١٩٩٨ وصل بوتين الى رئاسة الوزراء فحزم الأمر وأنهى الحرب الشيشانية وأسقط غروزني وأنتج ظاهرة قاديروف والقوة الشيشانية بيده.
عندما تحرّشت جورجيا حسم أمر روسيا ودمر بنيتها وأمن الحماية للمقاطعات الروسية وللناطقين بالروسية.
٢٠١٤ عندما انقلبت اوكرانيا ضد روسيا حسم بضمّ القرم وبدأ الاستعداد للعملية الخاصة في أوكرانيا ووفر لها كل المستلزمات.
ورد في سورية ٣٠ ايلول ٢٠١٥ بعاصفة السوخوي وغير اتجاهات الريح والأحداث وأسهم في إسقاط المشروع الاميركي الاطلسي وتحول بروسيا من المنصة السورية الى القوة العالمية المقررة.
وعندما جرت محاولات أخذه في قره باخ ضرب يده على الطاولة وحسم الأمر.
عندما تعرضت بلاروسيا لثورة بيضاء وملونة حسم الامر لحليفه لوكاشينكو.
وعندما جرت محاولات هز السيطرة في كازاخستان كانت قواته الخاصة والمحمولة جاهزة وحسمت الأمر بساعات…
ماذا عن أميركا في العراق وسورية واليمن وهزيمتها المذلة في افغانستان وخسارتها معركة فنزويلا وكولومبيا، وبوليفيا والجاري في البرازيل، وانحسار نفوذها في أميركا اللاتينية؟ وماذا عن نتائج الخطط والثورات الملونة الاميركية في لبنان والعراق؟…
الحق ان اميركا والاطلسي لم ينتصرا في اي حرب او جولة بينما تاريخ صعود بوتين محمول على الانتصارات…
ماذا بعد؟؟
هل يصدق عاقل وصاحب عقل ان روسيا ستهزم امام مرتزقة وشركات أمن خاصة تقودهم أميركا والاطلسي في اوكرانيا المدمرة والتي تعيش زمن انهيارها وربما زوالها كدولة عن الخريطة؟؟
اليوم بدأت الحرب على اوكرانيا وكشر الأسد عن انيابه وغالب التقدير ان الحملة لن تتوقف قبل إعادة اوكرانيا الى القرن الثامن عشر وربما دفعها للاستسلام واو طلب وقف الحرب وتأمين مطالب بوتين…
إذا رايـــت نيوب الليــث بارزة فلا تظنـــن ان الليــث يبتســم
العقل زينة…