د. ذوالفقار عبود*
يصف الاستراتيجيون الأميركيون سياسة حافة الهاوية النووية بأنها “منحدر منحني يمكن للمرء أن يقف عليه لكن مع بعض مخاطر الانزلاق”. ويعتقد هؤلاء بأن نشر كوريا الشمالية للأسلحة النووية التكتيكية في شبه الجزيرة الكورية من شأنه تغيير حدة هذا المنحدر. كما يرى هؤلاء بأن تكاليف التعايش مع كوريا الشمالية المسلحة نوويًا وردعها، هي مسألة أكبر من أن تترك دون معالجة، لأن ردع القوة النووية لكوريا الشمالية وفق الرؤية الأميركية، ومعها المخاوف الكورية الجنوبية، ستزداد تعقيدا مع مرور الوقت.
ففي عام 2018، أعلنت قيادة كوريا الشمالية أنها تمتلك صواريخ بالستية عابرة للقارات، قادرة على الوصول إلى أنحاء الولايات المتحدة الأميركية كافة، في تطور خطير لإمكانات الردع النووي. ورغم أن هذا الإعلان قد مضى عليه أكثر من أربع سنوات، إلا أن القيادة الكورية مستمرة في توسيع أسلحتها النووية لتصبح أكثر تعقيدا مما تملكه الولايات المتحدة من معلومات عنها.
وفي العام 2021، أعلن الرئيس كيم جونغ أون أن بلاده تسعى لنشر أسلحة نووية تكتيكية في شبه الجزيرة الكورية، الأمر الذي أقلق الإدارة الأميركية بشدة، فتطوير الأسلحة النووية التكتيكية وإدخالها في الميدان، من شأنه أن يخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية في شبه الجزيرة،وهذا ما سيكون له تداعيات خطيرة على أمن الولايات المتحدة وحليفتها كوريا الجنوبية.
لذلك أعلنت إدارة الرئيس بايدن عزمها على إحراز تقدم عملي في المفاوضات مع كوريا الشمالية، من شأنه أن يزيد من أمن الولايات المتحدة وحلفائها، على الرغم من فشل جهودها لثني بيونغ يانغ عن حيازة أسلحة استراتيجية.
تعتقد الإدارة الأميركية بأن إدخال كوريا الشمالية للأسلحة النووية التكتيكية من شأنه أن يتيح أشكالًا جديدة من سياسة حافة الهاوية الخطيرة تجاه كوريا الجنوبية الحليف الأهم للولايات المتحدة، كذلك من شأنه أن يخلق حوافز لتبني المزيد من ممارسات القيادة والسيطرة النووية الخطيرة، والتي يمكن أن تخلق مسارات جديدة للاستخدام النووي غير المقصود.
وبينما يبد ونزع سلاح كوريا الشمالية أمرا بعيد المنال عن الإدارة الأميركية، فإن نشر الأسلحة النووية التكتيكية ستجعل من ذلك مشكلة مستعصية أكثر صعوبة.
لقد سعت كوريا الشمالية لامتلاك الأسلحة النووية لردع التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وكوسيلة لتحقيق توازن في القوى، وقبل كل ذلك، ردع أي احتمال لشن حملة عسكرية هجومية من قبل التحالف لإنهاء النظام السياسي لكوريا الشمالية بالقوة، هذا الاحتمال الذي أثر بشدة على الرئيس السابق كيم إيل سونغ في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، والذي جعل العقيدة الكورية الشمالية تبنى على أن الاستخدام المبكر للأسلحة النووية ضد الأهداف العسكرية والمطارات والموانئ الأميركية، من شأنه أن يعقد بشكل كبير العمليات العسكرية للتحالف الأميركي، من خلال استخدام أنظمة عابرة للقارات وأنظمة التوصيل قصيرة ومتوسطة المدى لتهديد المواقع العسكرية في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وحتى اليابان، ولذلك تسعى القيادة الكورية لإنهاء الصراع مع الولايات المتحدة بشروط مواتية من خلال ثنيها عن التصعيد المستمر. ولذلك تستخدم القيادة الكورية سلاح الخوف من الهجمات النووية على الأراضي الأميركية أ والكورية أ واليابانية لثني هذه الأنظمة عن تصعيدها المستمر.
في كانون 2021، حددت قيادة الحزب الشيوعي الكوري الشمالي، وتحديدا في المؤتمر الثامن للحزب، مجموعة واسعة من أهداف التحديث العسكري والنووي التي تهدف إلى بلورة هذه الاستراتيجية للردع. وفي الأشهر التي تلت ذلك، تم متابعة العديد من هذه الأهداف، فاختبرت كوريا الشمالية أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وصواريخ باليستية عابرة للقارات. وصرح الزعيم كيم جونج أون في مؤتمر الحزب بأنه “من الضروري تطوير أسلحة نووية تكتيكية”، والتي يمكن استخدامها في “مهام مختلفة”. ورغم أنه لا يوجد تعريف عالمي لما يشكل بالضبط سلاحًا نوويًا تكتيكيًا، إلا أنه وبشكل عام، تتميز هذه الأسلحة بانخفاض إنتاج الانفجارات النووية؛ وهي ذات نطاقات أقصر مقارنة بالأسلحة الاستراتيجية، إضافة لقدرتها على ردع أي تصعيد نتيجة التهديد باستخدامها.
وفي شباط من نفس العام، بدأت كوريا الشمالية في إعادة ترميم موقعها الوحيد المعروف للتجارب النووية، وتتوقع المخابرات الكورية الجنوبية بأن العودة إلى التجارب النووية ربما يكون لتحقيق هدف الزعيم كيم التكتيكي في صنع الأسلحة النووية.
وفي نيسان 2021، أشرف الرئيس كيم على اختبار صاروخ جديد قصير المدى قالت وسائل الإعلام في كوريا الشمالية إنه يهدف إلى “تعزيز الكفاءة في تشغيل الأسلحة النووية التكتيكية”، ولقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تأطير نظام أسلحة تم اختباره بشكل صريح على أنه يلعب دورًا تكتيكيًا في توصيل الأسلحة النووية.
كل هذه الضغوط الكورية تأتي بهدف الحصول على أسلحة جديدة غير معروفة من قبل الاستخبارات الأميركية، التي تشكك بمصداقية القدرات والاستراتيجيات النووية لكوريا الشمالية، حتى بعد الاختبارات الثلاث للصواريخ البالستية العابرة للقارات في ذلك العام، واختبار آخر هذا العام 2022، لا زالت الإدارة الأميركية تشك فيما إذا كانت الرؤوس الحربية الكورية الشمالية المسلحة نوويًا قادرة على دخول الغلاف الجوي والانفجار بنجاح. ومع ذلك، تتجاهل هذه الشكوك الأميركية مصلحة كوريا الشمالية الأساسية في إدارة المخاطر والردع النووي وعدم ترك أي أمر للصدفة.
لذلك يعتقد الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون بأن القدرات النووية الكورية، يجب أن تثني أي رئيس أميركي عن اللجوء إلى هجوم قد يؤدي إلى تصعيد غير منضبط يمكن أن ينتهي برأس حربي نووي كوري شمالي ينفجر فوق أي مدينة أميركية، وأن هذه القدرات الكورية الشمالية، ستدفعها أكثر لتستكشف فوائد سياسة حافة الهاوية النووية في الأزمات المستقبلية.
تاريخ الصراع الكوري – الأميركي:
في الخمسينيات من القرن الماضي، سعى حلف النات ولإحباط قدرة كوريا الشمالية حليف الاتحاد السوفيتي في الاستخدام المبكر للأسلحة النووية، وسعى الحلف إلى “ضمان القدرة على تنفيذ هجوم نووي مضاد مدمر وفوري بكل الوسائل المتاحة وتطوير القدرة على استيعاب هجوم العد ووالنجاة منه. وكانت إحدى الوسائل لجعل هذا الأمر ممكنا ه وتفويض سلطة إطلاق أسلحة نووية قصيرة المدى إلى القادة العسكريين. وقالت الولايات المتحدة آنذاك. قالت على لسان الرئيس دوايت أيزنهاور في عام 1955 إن الأسلحة النووية التكتيكية في سياق “أهداف عسكرية بحتة ولأغراض عسكرية بحتة”، يمكن استخدامها “تمامًا كما تستخدم رصاصة أ وأي شيء آخر”.
كان هذا المنطق الغربي قائما في سياق التحديات التي واجهها النات وفي ذلك الوقت، وربما يكون هذا المنطق اليوم مقبولا في كوريا الشمالية التي تعاني من انعدام الأمن بشكل مزمن. ولذلك تسعى الولايات المتحدة إلى أن يساهم افتقار بيونغ يانغ إلى القدرات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع المتطورة في افتقارها العام للوعي بالموقف الاستراتيجي المتشكل. وفي الوقت نفسه، تسعى الإدارة الأميركية لنشر أنظمة الضربات الدقيقة التقليدية المتقدمة في كوريا الجنوبية، بما في ذلك مقاتلات الشبح من الجيل الخامس، لزيادة احتمالية إنهاء نظام الزعيم كيم جونغ أون في وقت مبكر من أي أزمة قبل أن تتاح له فرصة إصدار أمر باستخدام الأسلحة النووية.
من جانب آخر، وعلى الرغم من أن الزعيم كيم – كما ه والحال في الولايات المتحدة- يمتلك وحده السلطة للتصريح بالاستخدام النووي، فإن الإدارة الأميركية تعتقد بأن الأسلحة النووية التكتيكية ستخلق حوافز قوية خاصة في الأزمات- إن لم يكن في وقت السلم أيضا – لتفويض السلطة إلى القادة الميدانيين لاستخدام هذه الأسلحة، ومن هنا تبرز مخاوف افتقار القادة العسكريين من الصف الثاني إلى الذكاء وتقدير الموقف الاستراتيجي، بالإضافة إلى المخاوف الأميركية من تفويض السلطة النووية المتزايدة للقادة من المستويات الأدنى، وهذا ما سيؤدي إلى التلاعب بـ “المنحدر المنحني” ليصبح أكثر انحدارًا من أي وقت مضى. فعلى الرغم من أن هذا التغيير قد يتجلى في تعزيز قوة الردع لكوريا الشمالية، إلا أنه سيخلق العديد من المسارات لتصعيد نووي غير مقصود. فعلى سبيل المثال، قد يفسر قائد ميداني كوري شمالي حوادث عادية ضمن الصراع التقليدي بشكل مبالغ فيه، مثل انحراف طائرة ركاب مدنية بالقرب من المجال الجوي الكوري الشمالي، ليستخدم التفويض في استخدام السلاح النووي.
لقد ألمحت كوريا الشمالية إلى أنها ستهاجم القواعد الجوية الكورية الجنوبية التي تستضيف مقاتلات شبحية من طراز F-35A التي لا يمكن رصدها راداريا على ارتفاع منخفض، نظرًا لأن هذه الطائرات ستكون عمليًا غير معرضة للكشف من أنظمة الدفاع الجوي القديمة لكوريا الشمالية، لذلك فإن البنتاغون يخشى أن يساهم ذلك في استخدام ضربة نووية في وقت مبكر من الصراع.
كما ترى الإدارة الأميركية بأنه نظرا إلى مركزية السلطة في كوريا الشمالية، فإن الرئيس كيم لن يكون راغبا في تسليم السيطرة على زر السلاح النووي – ولا حتى بالنسبة للأسلحة التكتيكية – في وقت السلم لأي شخص آخر.
كما تعتقد الإدارة الأميركية بأن كوريا الشمالية تستخدم حاليًا موقعًا واحدًا لتخزين الرؤوس الحربية ؛ ولذلك فإن انتشار الأسلحة النووية في العديد من القواعد العسكرية الكورية الشمالية من شأنه أن يزيد من خطر التصعيد غير المقصود، ويمكن أن تفسر كوريا الشمالية هجومًا أميركيًا أ وكوريًا جنوبيًا على مثل هذه القاعدة في حرب تقليدية محدودة على أنه بدء حملة أوسع لنزع سلاح كوريا الشمالية النووي.
إن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تدركان تزايد التحدي الذي تشكله القدرات النووية السريعة التقدم لكوريا الشمالية. ففي اجتماع عُقد في كانون الأول 2021 بين وزير الدفاع الامريكي ونظيره الكوري الجنوبي، أقر الجانبان بأن التحالف بحاجة إلى التكيف مع قدرات كوريا الشمالية التي تتقدم بسرعة في غياب أي قيود على برامجها، التي تواصل تحديث وتوسيع قدراتها. وهذا ما يعني بأن التحالف – وصناع السياسة في كل من سيول وواشنطن – لا يزالون في وضع ضعيف لمواجهة التحدي الكوري الشمالي المتمثل في الأسلحة النووية التكتيكية، فالاستراتيجية السياسة الشاملة للتحالف لا تزال رهينة فكرة نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، وهي تتعامل مع قضية كوريا الشمالية كمشكلة تتعلق بحظر انتشار الأسلحة النووية، لذلك فإن الحد من التهديدات وبناء الثقة والسيطرة على الأسلحة يتم تجاهله إلى حد كبير.
الفرضية المفيدة لصناع السياسات في الولايات المتحدة للبناء عليها هي إدراك أن مصادر انعدام الأمن التي تدفع كوريا الشمالية إلى السعي وراء امتلاك أسلحة نووية تكتيكية يمكن معالجتها من خلال عملية أوسع للحد من التهديدات التقليدية والنووية. ومن الأمثلة عن المبادرات التي يمكن البناء عليها بشكل مفيد في هذا الصدد، الاتفاقية العسكرية الشاملة لكوريا الشمالية والجنوبية لعام 2018.
إن تعهد إدارة بايدن “بإحراز تقدم عملي يزيد من الأمن في شبه الجزيرة الكورية أمر جيد، لكن يجب أن يكون مصحوبًا بتفكير جديد حول كيفية تشكيل خيارات القيادة في كوريا الشمالية بشأن ترسانتها النووية المتطورة. ولكن قبل كل شيء، وقبل أن تتحرك كوريا الشمالية لنشر أسلحة نووية تكتيكية وأنظمة توصيل نووية جديدة أخرى، يجب على الولايات المتحدة أن تدرك أنها – شاءت أم أبت – في علاقة ردع نووي مع كوريا الشمالية. لذلك تتطلب إدارة المخاطر وتجنب الصراع النووي بدء حوار مع كوريا الشمالية حول هذه القضايا.
*أستاذ جامعي محاضر في جامعة طرطوس قسم العلاقات الدولية.