مصطفى عبد الحسين*
ثمة عوامل تؤثر في أسعار النفط العالمية، حيث تمر السوق بدورات cycles من إنخفاض السعر وإرتفاعه حسب تلك العوامل، ومنها العرض والطلب supply & demand فحين يزداد الطلب يتبعه عرض من المهم تصاعدهُ لتغطية حاجة السوق وبالعكس. وكذلك العوامل السياسية والأزمات كالحروب أو الأمراض التي تأخذ صفة الجائحة العالمية، فيتسبب بنقص الإمداد في رقعة جغرافية معينة مما يقتضي تغطيته عن طريق مواقع منتجة لدول أخرى يفترض أن تتوفر فيها طاقة إحتياط spare capacity لتلبية الطلب، أو إنكماش الطلب نتيجة تراجع الفعاليات الصناعية والنمو الإقتصادي فتحصل عملية إغراق في السوق إن تنافس المنتجون على مزيد من ضخ النفط دون الأخذ بالإعتبار واقع التوازن السُّوقي.
كما تطورت في الآونة الأخيرة فعالية الأوبك بعد تحالفها مع دول منتجة أخرى من خلال الأوبك+ واكتسابها تأثيراً أكثر فاعلية كمجموعة أوسع للحفاظ على مرونة في السوق لغرض مواجهة أزمات هبوط الأسعار وحصول تخمة glut في العرض على حساب الطلب، أو حتى الرفع التدريجي للإنتاج إن بدت الحاجة لذلك بسبب ضعف المعروض وإرتفاع الطلب في حال تعافي إقتصادات الدول المستهلكة. وبالإمكان عد الجائحة التي داهمت البشرية ولا زالت آثارها قائمة نموذجاً لضمور الفعاليات الإقتصادية في عديد من الدول المستهلكة كالصين والهند والدول الغربية الأوروبية (تعد الولايات المتحدة دولة منتجة ومستهلكة في ذات الوقت بعد ظهور النفط الصخري أو ما يسمى بغير التقليدي unconventional) حيث أفضت الحالة إلى أسعار دون الصفر كما حصل عام 2020، وقد فاقم ذلك تنافس روسي- سعودي في إغراق السوق أخذت الدولتان منه العبرة لتلافيه الآن وفي المستقبل.
ويمكن أن تكون الحرب الجارية اليوم على أرض أوكرانيا مؤشراً واضحاً على تصاعد الطلب بسبب العقوبات على روسيا خصوصاً في موضوعة تصدير الغاز، وعمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة لتحجيم الإنتاج الروسي، والتوجه إلى مصادر أخرى كإيران وقطر والجزائر لتعويض الغاز كميات الغاز الهائلة التي إعتادت بث الحياة في الإقتصاد والصناعة الأوروبية، أو السعودية والعراق لتعويض النقص المتوقع في الخام النفطي إن تصاعد أوار الصراع الدائر على أرض أوكرانيا. وهذا أمر من أولويات الوعي بواقع السوق حاولنا التنوير بشأنه منذ مراحل مبكرة في العراق، وبالأخص خلال التقريرين العامرين بالمعلومات اللذين نشرتهما وكالة الطاقة الدولية عامي 2012 و2019 حول تطوير قطاع الطاقة الذي يُعدُّ عصب المستقبل لهذا البلد الذي يتصف باقْتِصاد ريعي وبإمتياز، والتأكيد على هامش إنتاجي مناسب يمثل قفزة لم يسبق للعراق أن توصل إليها منذ عقود لتوفير طاقة إنتاجية إحتياط لمواجهة حالات الطواريء في السوق العالمية، حيث تتوفر مثلها اليوم لدى السعودية.
تلك العوامل وغيرها كثير باتت تلعب دوراً في تقلبات السوق volatility، لهذا تتحكم بالأسعار حالة من عدم اليقين uncertainty لدى متداولي السعرالعالمي، مما يتطلب يقظة ومتابعة مستمرة، حيث يبقى هدف الطرفين المنتج والمستهلك بلوغ حالة التوازن بين العرض والطلب بما يرضيهما معاً في أسعارعادلة fair prices، غير أن هذا الهدف بات صعب المنال بسبب مضاربات speculations السوق من قبل أطراف تسعى إلى عدم إستقراره، والإضرار حتى بشركات الطاقة الكبرى التي تبحث في آليات إيجاد التوازن، لكن المشكلة تبقى في عدم اليقين ومفاجآت السوق التي لا تُمكِّن الخبراء من رسم الصورة المستقبلية الواضحة.
والعالم لم يستغنِ بعد عن الطاقة الأحفورية (النفط والغاز والفحم) رغم مساعي مواجهة المعضلات المُناخية التي لها صلة بهيمنته في مزيج الطاقة، وتتمثل بالمراهنة على طاقة متجددة لعقود مقبلة (قد يكون هدفها الأبعد عام 2050)، والعمل تدريجياً عليها لمجابهة التغيرات المُناخية والتصحر بما يحمي الحياة على الكوكب من مستقبل غير مضمون. لكن الإقتصادات العالمية الكبرى لم تتخلص من الحاجة ولعقود مقبلة للطاقة الإحفورية، فثمة من يؤجل ذلك إلى ما بعد العقد الخامس من هذا القرن، ولعل توجيه الرئيس الأميركي لشركات النفط المحلية والعالمية لمزيد من الإنتاج لمواجهة تصاعد السعر بسبب تزايد الطلب (متجاهلاً الخطط الخاصة بإدخال مزيد من الطاقة المتجددة إلى مزيج الطاقة)، والإخفاق في جلب الكميات المتوخاة كمعروض، قد أدى إلى السحب من المخزون الإستراتيجي للولايات المتحدة وبقية دول منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية OECD، وبضمنها الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية IEA.
ثمة جانبان إيحابي وسلبي بالنسبة للعراق في الإرتفاع الحالي الحاصل في أسعار النفط بزيادة العوائد لدى دولة ريعية بإمتياز rentier state، ويتمثل الإيجابي بالأموال الطائلة التي لم تتطوع جهة رقابية لتحديد حجمها، والأهم من ذلك توجيهها الى تعويض النقص في الجانب الإستثماري من الموازنة وليس التشغيلي، كما أن تقريري وكالة الطاقة الدولية المذكورين في السطور السابقة (وكان لنا الدور في إعدادهما)، ركزا على أهمية إستغلال بحبوحة الموارد المالية نتيجة إرتفاع أسعار النفط في تنويع الإقتصاد العراقي، ومواجهة مستقبل قد ينذر بضعف الإقبال على الطاقة الأحفورية، حينها يفقد النفط الخام قيمته بما يشكل اليوم عماد الإقتصاد، لنجد ثروتنا ماكثة باطن الأرض دون إنتاجها الوفير كما هو عليه اليوم وربما لقلة الإقبال عليها بعد بضعة عقود أو الإمتناع عن إستقبال الخام لدى دول مستهلكة تكون وفرت البدائل ضمن الأمد البعيد، وذلك وضع على صنّاع القرار أخذه بحسبانهم حول المستقبل الوجودي للعراق، أمّا الجانب السلبي فيتمثل في الإرتفاع الحالي لأسعار الخام، والذي لا يُطمأنُّ إليه إذ يعكس تقلبات غير مضمونة نتيجة أزمات محددة سببت ذلك الإرتفاع، وقد أثبتت تجارب الهبوط والصعود bullish & bearish المغلفة بـ (لا أدريَّة) وعدم إستقرار سعري بيِّن ولفترات ليست متباعدة وقبيل دخول العقد الثاني من هذا القرن وحتى اليوم، مما يدعو إلى العمل سريعاً لتشكيل حكومة وطنية مهنية تدرس وضع الطاقة العالمية وإنعكاسها على الإقتصاد والشروع في تنويع الإقتصاد العراقي Diversification of Iraqi Economy لغرض حماية مستقبل الوطن والمواطن، والإبتعاد عن المشاريع الإقتصادية الوقتية ذات الصفة الشعبوية والديماغوجية demagoguery التي يراد بها غير الأهداف المعلنة، بتغطية محاور فساد من قبل حكومة لا صفة لها غير تمرير الشؤون اليومية كما ورد في دستور العراق بعد 2003.
*مستشار سابق لدى وكالة الطاقة الدولية
موقع حرمون