د.قصي الحسين*
في وسط مدينة طرابلس الحديثة، حيث ساحة التل اليوم، ترتفع “الساعة الحميدية” بطرابلس، مثل المئذنة. مثل إصبع التشهد. بل مثل شاهد على عصر. على قرن.
فمن بين أبرز الآثار العثمانية في طرابلس – لبنان، كان مبنى السراي الحكومي، وقبالته الساعة التي أهداها السلطان عبد الحميد لطرابلس. بالإضافة إلى أثرين آخرين: مستشفى عزمي بك والي بيروت، (دار العجزة اليوم)، في تلة أبي سمراء، حيث كانت تنتشر عرازيل الطيارات، المعدة للصيف. وكذلك التكية المولوية على كتف نهر أبو علي، تحت القلعة.
رياض دبليز، مؤلف كتاب: ( ساعة طرابلس… إن حكت. دار الفنون – بطرابلس. بلا تاريخ. 160 ص. تقريباً)، إنما هو سليل عائلة طرابلسية عريقة، تعود بأصولها إلى مملكة طرابلس الصليبية. تلك العائلة، التي آثرت البقاء في طرابلس، بدل الجلاء عنها، بعد الفتح المملوكي للمدينة، العام في 26 نيسان 1289م ومغادرة الصليبيين لها.
عمد المؤلف، لإملاء معرفته، وكذلك ذكرياته التاريخية عن طرابلس، على لسان الساعة. اتخذها شاهدا على قرن من التحولات، في مدينته. وهو الذي سبق له وألف كتاباً آخر بعنوان: (طرابلس أيام زمان… عادات وتقاليد. دار الفنون – طرابلس).
يتحدّث المؤلف رياض دبليز، بلسان ساعة طرابلس عن ذكرياته عن الأحداث التي عاشتها طرابلس، خلال قرن، فكان يضيف ما يسمعه عنها، إلى ما يعرفه كشاهد عيان. بحيث أتى كتابه سجلاً حرفياً لجوانب من سوسيولوجيا المدينة، التي كانت درة بلاد الشام، على البحر المتوسط، ولو أنه أهمل تدوين بعض الجوانب الأخرى. فغدت بعد الاستقلال درة المدن اللبنانية على ساحل المتوسط.
أتى تقديم الكتاب، بقلم العلامة الراحل د. مصطفى الرافعي. كان صديق المؤلف. وقد شهد له بعرضه الدقيق والأمين، لحقبة تاريخية هامة، طيلة قرن. وقال: إن المؤلف واكب معظمها. يقول الرافعي في تقديمه: “طرابلس بلدة لها شأن وتاريخ قديم. تقع على شاطئ البحر المتوسط، أو (بحر الروم)، كما كانوا يسمّونه في الأزمنة القديمة. ويضيف الرافعي: “ومهما يكن من شيء، فدمشق وطرابلس وما إليهما، من كبريات المدن والبنادر. تنتظمها جميعاً كلمة ( بر الشام)، وإن تغيرت الأمور وتبدلت”. ويختتم التقديم بقوله: “هذه الدراسة تتناول وقائع لم تنشر من قبل بل وتخفى على كثيرين. قدمها المؤلف بعرض شيق، وصياغة موضوعية، وواقعية عادلة. (ص ٣- ٧).
أما المؤلف فيقول في مقدمة الكتاب: “إنّه يضم بين دفتيه، من ذكريات أحداث عاشتها طرابلس، خلال هذا القرن، ومن مواقف سجلها الشعب الطرابلسي على نفسه”. (ص 9). ثم تتوالى مواد الكتاب تباعاً:
1- يتحدث أولا بلسان ساعة طرابلس، عن أبرز الآثار التي خلفها العثمانيون في المدينة: السراي الحكومي. وساعة ساحة التل. ومستشفى عزمي بك في أبي سمراء. والتكية المولوية على ضفة نهر “أبو علي”، تحت القلعة. ويقول إن الساعة بنيت عام1901، احتفاء بمرور 25 عاماً على تولي السلطان عبد الحميد الخلافة العثمانية عام 1876. وإن هذه الساعة عاصرت أحداث طرابلس كلها: في داخل المدينة وحتى الميناء. ترقب القبة وأبي سمراء وبساتين الليمون والزيتون. وكذلك منشآت النفط ومصافي البترول وبركة السمك المقدس، في البداوي.( ص14).
2- يتحدث الكتاب، عن “يوم الفرسان”، في يوم الجمعة من كل أسبوع. حيث كانوا يأتون على خيولهم، للتباري حولها. كل على صهوة جواده. بيده رمح أو سيف، فيأتون بألعاب معجبة. تثير البهجة والدهشة، في نفوس الجمهور.
كذلك يتحدث عن الاحتفالات في السراي الحكومي، قبالة الساعة. وهي التي هدمت في الستينيات.. فكان يحضر حاكم المدينة والأفندية والبكوات. فتعزف لهم ثلة من العسكر، الموسيقى المناسبة للاحتفالات.
كذلك يتحدث عن أول طائرة فرنسية حطت قبالة الساعة في كانون الأول من العام 1913. ويقدم صورة لها. يظهر بجانبها “فهيم آغا كفرسوسة”، قواص قنصل فرنسا في ذلك الحين. وهو صاحب “مقهى فهيم” فيما بعد، الذي لا يزال قائماً إلى اليوم.
3-وتحت عنوان ويلات الحرب العالمية الأولى، يتحدث المؤلف بلسان الساعة، عن الجوع والكوليرا.. وموت الناس بالآلاف. يصف أيضاً كيف كان العثمانيون يسوقون شباب طرابلس إلى الجندية سوقاً، عند اندلاع الحرب. وكيف أن المدينة عاشت ويلات الحرب المأساوية طيلة أربع سنوات. وكيف انتهت الحرب في المدينة، باستبدال العسكر التركي، بالعسكر الفرنسي. ونراه يقدم شهادة لشهامة الطرابلسيين عموماً، و”آل الدبليز” خصوصا، لفك حصار التجويع عن الرهبانية الكرملية الإيطالية، في الحرب العالمية الأولى. فكان أن قدم قنصل ملك إيطاليا، شهادة للسيد “وجيه الدبليز”، وعيّنه وكيلا للرسالة الكرملية، ووكيلا للحكومة الإيطالية بطرابلس.
4- خصص فصلا مشوقا، للحديث عن أول انتخابات برلمانية جرت في طرابلس، في مطلع الانتداب، العام1924. وقال إن الانتخابات كانت تتم على مرحلتين: يتم أولا انتخاب المندوبين الثانويين. ثم يقوم هؤلاء، بانتخاب النائب الذي سيمثل المدينة في المجلس النيابي من بينهم أو من خارجهم، لا فرق. وكانت تدار حول ذلك، المعارك بين اللوائح تحت عنوان: المؤيدة للفرنسيين، وتلك المعارضة لهم.
5- سرد المؤلف، تجربة مشروع “مياه رشعين” البلدي الوطني، وكيف جمع الميسورون المال، لهذا المشروع، الذي يغذّي طرابلس بمياه الشرب النظيفة. وكيف وقفوا بذلك، ضد الشركة الفرنسية، التي كانت تنوي استثمار المشروع.
6- وصف لنا معارضة الطرابلسيين لزيارة رئيس الجمهورية “أميل إده” لطرابلس، وكيف واجهوه بالبطاطا والبيض والبندورة، وألجأوه إلى السراي الحكومي. وأفشلوا زيارته، بتحريض من المعارضة الطرابلسية للفرنسيين.
7- تحدث المؤلف، عما أسماه نهاية الحلم بالوحدة مع سورية. وكيف كانوا يعولون على موقف الوفد السوري إلى باريس، برئاسة “هاشم الأتاسي”. ويصف الإضراب الطرابلسي الكبير، وبراكين الغضب لإفشال فصل طرابلس عن سورية. وقال: إن السوريين، هم الذين خذلوا طرابلس، بالانضمام إليها. فتخلوا عنها، لصالح لبنان الكبير. فقامت الدبابات الفرنسية بدهس المتظاهرين، لأنهم كانوا يرددون: بدنا الوحدة السورية: إسلام.. ومسيحية. وعلى رأس هؤلاء كان الزعيم الطرابلسي عبد الحميد كرامي.
8- يتحدث المؤلف أيضاً، عن زيارة “الملك فيصل” لطرابلس. فقد خصّوه بحلوى “الفيصلية”، وبفرش السجاد له، وبتوزيع الليمونادة مجاناً، وبنثر الأرز والورد على موكبه.
9- تحدث عن إنشاء سكة للتروماي، تربط طرابلس بالميناء. تنطلق من باب التبانة وتمر بالزاهرية، والتل، وتأخذ طريقها إلى الميناء، من محطة الساعة في التل، قبالة السراي الحكومي. ملتفتا في سرده، إلى ظهور أول مصور أرمني بطرابلس. وإلى احتيال “داوود مرزاحي” اليهودي، على الطرابلسيين، والهروب بأموالهم، مع عائلته. والالتحاق بالدعوة الإسرائيلية.
10- وخصص المؤلف مقالات، وصف فيها، مجالس الأدباء والشعراء. متحدثاً عن “نرجيلة السلطي”، في مقهى التل العليا، حيث كان القشلق العثماني. ويقول إن هذا المقهى، صار قبلة المنتدين من الأدباء والشعراء. وذكر من الشعراء: الشاعر والأديب الشيخ “عبدالوهاب الساري”. والشاعر الشيخ “لبيب مراد”. ويصف بناء كلية التربية والتعليم الإسلامية، التي نالت شهرة عظيمة، وقصدها الطلاب من كافة أرجاء لبنان والبلاد العربية. ويعلق عليها، فيقول: إنها فشلت فيما بعد، لسرقة أموال صندوقها.
11- يتحدث المؤلف عن استقبال المجاهد فوزي القاوقجي، في12 آذار1947، إلى طرابلس، بعد اغترابه عنها لـ 25 عاما، أمضاها في مقارعة المستعمرين، والإسرائيليين. غير أن استقباله تحول إلى مجزرة في ساحة التل. فقتل نافذ المقدم، ومظهر العمري. وعاد من المرافقين إلى سورية.
12- يتحدث المؤلف عن موت نائب طرابلس وزعيمها، عبد الحميد كرامي. وكذلك عن الانفصال بين سوريا ولبنان. وهذان الحدثان، وقعا في العام 1950. كذلك تحدث عن كارثة طوفان “نهر أبو علي” الذي دمر الأحياء الداخلية من المدينة، في 17 كانون الأول سنة 1955. وعن ثورة1958 ، التي اندلعت من طرابلس. وتذكر كارثة سقوط طائرة، كانت تقل 13 مهندسا طرابلسيا من الإسكندرية إلى القاهرة، فعادوا بالنعوش. فاحتشد أكثر من 200 ألف نسمة لاستقبال هذه النعوش العائدة لكبار العائلات.
12- تحدث المؤلف عن طرابلس وحزنها وحدادها، لموت الزعيم العربي “جمال عبد الناصر”. وكذلك عن عصابة المطلوبين التي استقوت بداخل المدينة التاريخية وإرهابهم للناس، لأشهر طويلة، بزعامة “أحمد القدور”.
كذلك تحدث عن “مجزرة داريا”، أثناء الحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها في “عين الرمانة”، في نيسان العام 1975. واتصل حديثه هذا، بالحرب التي شبت بين “حركة التوحيد الإسلامية”، والأحزاب الوطنية بطرابلس. فتركت آثار الدمار والخراب على المدينة كلها. وعطلت دورها الريادي. ثم كان الأول من حزيران العام 1987، حيث تم اغتيال دولة الرئيس رشيد كرامي، فوق مطار حالات المستحدث، وهو في طريقه من طرابلس إلى بيروت، في طوافة عسكرية. فترك ذلك أثراً عظيماً على المدينة.
13- يتحدث الكتاب عن تاريخ الصحافة في طرابلس. ويسرد معظم الصحف التي كانت قد صدرت في المدينة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى أواخر القرن العشرين: مثل “جامعة الفنون” و”الوجدان” و”إهدن” و”الضمير” و”المهماز” و”صدى الشعب”، و”لبنان الشمالي”، و”صدى الشمال”، و”الشفق”، و”الصباح”، و”أبجد هوز”، و”العيون”، و”الديك” و”النجوم”، و”الليل”، و”صوت الفيحاء”، و”الأفكار”، و”الرائد”، و”المستقبل”، و”التمدن”. وكل هذه الصحف كانت قد ظهرت قبل الحرب العالمية الثانية.
وفي مرحلة ما بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، كثرت الصحف بطرابلس، كثرة عظيمة.
14- يتحدث الكتاب عن إنشاء المصارف في طرابلس، وأول ظهور لها، كان في العام 1889، فظهر “بنك إنطانيوس وحنا فاضل”، في شارع الجميل، قرب البلدية القديمة. ثم تأسس “بنك ذوق وأديب” في خان الصابون، بمحلة الصاغة، سنة 1893. وصار هذا البنك فيما بعد: “البنك العثماني”. وبعد الحرب العالمية الأولى، ظهر بنك سوريا ولبنان. ثم انقسم البنك سنة 1964، فصار يعرف بالبنك المركزي، وهو “مصرف لبنان” الحالي. كذلك تأسست غرفة التجارة والصناعة سنة 1945. ونشأت بلدية طرابلس في العام 1877، بإعلان من السلطان عبد الحميد. ويفرد بحثا لتاريخ الحياة السياسية بطرابلس، من “مجلس المبعوثان” العثماني، حتى مجلس النواب الفرنسي واللبناني.
وفي خاتمة بحثه يقول رياض الدبليز متحسراً على فقدان المدينة العروس لدورها: هذا غيض من فيض. فأين طرابلس اليوم؟
* أستاذ في الجامعة اللبنانية.
#موقع_حرمون، #ساعة_طرابلس، #د.قصي_الحسين، #فوزي_القاوقجي، #عبدالحميد_كرامي، #ساحة_التل. #السراي_الكبير، #نهر_أبوعلي