أحمد رفعت يوسف*
بشكل مفاجئ، وعلى وقع العملية الروسية في أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس تخصيص ميزانية ضخمة بقيمة 100 مليار يورو لزيادة قدرات الجيش الألماني، وتخصيص ميزانية سنوية للجيش بقيمة 70 إلى 76 مليار يورو، وهذا المبلغ يشكل ضعف الموازنة السنوية العسكرية الفرنسية المخصصة للجيش الفرنسي.
هذا الخبر ليس عادياً بكل المقاييس والاعتبارات التي تحكم توازنات القوى والقوة العالمية التي تمت بناء على نتائج الحرب العالمية الثانية وكانت ألمانيا المستهدف الاول فيها، بهدف تحجيم دورها وتقييد قدرتها العسكرية، ووضعها تحت الإشراف الأميركي المباشر، لكن هذا الإجراء غير العادي ليس مستغرباً، ومتوقعاً على وقع التطورات والتغيرات المتسارعة والتي تطيح بالتوازنات الحالية، وتعيد تركيبها على أسس جديدة، وأبرز معالمها بدء انتهاء عصر القطبية الأحادية الأميركية، وتلاشي قوى عظمى حالية وفي مقدّمتها فرنسا وبريطانيا، وبدء ظهور عالم متعدد الأقطاب وقوى عظمى وإقليمية جديدة، مع ما يرافق ذلك من بدء أفول الهيمنة الأميركية ومنظومتها الرأسمالية على السياسات والاقتصاديات العالمية، وانتقال مراكز القوى والقوة العالمية من ضفتي الأطلسي، إلى الحضارات الآسيوية الشرقية القديمة الناهضة برأسها الصيني والروسي ومعها قوى أخرى صاعدة في مقدمتها إيران والهند.
من الطبيعي وسط هذه التطورات المتسارعة أن تبحث المانيا عن دورها، وأن تعمل على إيجاد موطأ قدم لها في العالم الجديد الذي يتشكل، لكن هذا البحث ليس بالأمر السهل، وسيكون موقف وموقع ومكانة المانيا أحد أبرز معالم التغيرات التي تجري في العالم، والأسس التي يتمّ رسمها لتوازنات القوى والقوة العالمية الجديدة.
مع هذه التغيرات تبدو المانيا في الشكل أنها تجري هذه المراجعة الجذرية على وقع الحرب في أوكرانيا، وأن المستهدف الأول فيها هي روسيا، لكن في الجوهر هو عملية المانية للانعتاق من نتائج الحرب العالمية الثانية وقيودها المفروضة عليها، وخاصة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، وهذا يعني قلب الأوضاع في أوروبا، وإعادتها إلى شكل قريب مما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية، وفرض المانيا كقطب عالميّ لا يمكن تجاهله في العالم الجديد الذي يتشكل.
البحث عن الدور الألماني الجديد والمفقود منذ الحرب العالمية الثانية، يجري وسط ظروف مؤاتية لها، ويترافق مع تغيرات جيوسياسية عميقة وغير مسبوقة، تجري في العالم وفي المحيط والمنظومة الرأسمالية العالمية التي تموضعت فيها المانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وهذه الظروف هي التي ستفرض نفسها على ألمانيا وعلى الآخرين، فأميركا التي تتداعى لن تمانع التوجه الألماني الجديد، ليس حباً بألمانيا، وانما من ضمن سياستها لإيجاد صدام روسي أوروبي، وعلى رأسه المانيا، لضرب الطرفين معاً والحفاظ على مكانتها كقطب وحيد مهيمن في العالم، أو – على الأقل – لتأخير انتهاء هذا الدور، لكنها ستضطر لاحقاً على الانصياع للتطورات الجديدة، وستسحب وحداتها العسكرية المرابطة في المانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وستقف معها في المكان والموقف نفسيهما بريطانيا، التي تشكل الدماغ والمطبخ السياسي (الشيطاني)، للمنظومة الرأسمالية العالمية، والتي ستسعى للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مكانة لها تتداعى أيضاً، وهي التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي لهذه الغاية تحديداً، وهذا لا يمكن أن يتم دون الصدام الروسي الألماني.
أما فرنسا فهي تائهة وضائعة بين تبعيتها لأميركا، والمحاولة اليائسة للحفاظ على بقايا دور أوروبي كانت تؤمنه بالتعاون مع المانيا، ومع التطورات الجديدة ستفقد حتى ما تبقى من هذا الدور، وستفقد مكانتها كدولة عظمى، وستعود مجرد دولة أوروبية كبرى مثل إيطاليا وبولونيا واسبانيا.
يضاف إلى ذلك ما يجري خارج أوروبا والمنظومة الرأسمالية العالمية، من صعود الصين كقوة اقتصادية أولى في العالم، وروسيا كقوة عسكرية تستطيع فيها مواجهة الناتو، مع ازدياد قوتها ومكانتها بتداعيات الحرب في أوكرانيا، وبروز قوى إقليمية أخرى كالهند وإيران والبرازيل وجنوب أفريقيا.
وسط هذه التغيرات العميقة في الخريطة الجيوسياسية في أوروبا والعالم، ستبقى المانيا الدولة الوحيدة التي سيبقى لها دور مؤثر في أوروبا، وسيحولها إلى دولة عظمى في العالم الجديد الذي يتشكل، مع تنامي دورها ومكانتها مع دخول العامل العسكري إلى جانب العامل الاقتصادي لبناء القوة الألمانية الجديدة، والعمل على أخذ دورها الذي يتناسب مع هذه المكانة.
هذه التغيرات الاستراتيجية في موقع ومكانة ألمانيا، ودورها في أوروبا والعالم، وفي موازين القوى والقوة التي تتشكل، ستؤدي مع استكمال التموضع الألماني الذي يجري بشكل متسارع – كما هو حال التغيرات في التوازنات الدولية – إلى ظهور هت.ل.ر جديد في المانيا، يبحث عن دور يتناسب مع القوة الاقتصادية والعسكرية لألمانيا الجديدة، ولكن مع الأخذ في الاعتبار دروس وعِبَرْ الحرب العالمية الثانية ونتائجها، وأسباب خسارة وسقوط المانيا في الحرب، والظروف الجيوسياسية التي تتحكم بعالم اليوم، ومع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً المزاج الشعبي العام في المانيا. ومن أبرز هذه الدروس الخطأ القاتل الذي وقع به هتلر بالهجوم على الاتحاد السوفياتي “روسيا” قبل أن يهضم سيطرته على أوروبا، وأعتقد أن ما من عاقل في المانيا يمكن أن يكرّر هذه الخطيئة التي أسقطت ألمانيا، وغيّرت وجه التاريخ، خاصة أن المزاج العام في المانيا (رسمياً وشعبياً) يخفي غضباً مكبوتاً على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ويميل بمعظمه إلى تفضيل التعاون الألماني الروسي، وخاصة في مجال الطاقة والمعادن النادرة والذي كان أحد الأسباب الرئيسية لنهضة المانيا الاقتصادية وضمان استمرارها.
المانيا تبدو اليوم أمام فرصة لن تتكرر للتخلص من تبعات الحرب العالمية الثانية وترتيباتها التي أذلت المانيا والشعب الألماني، وأعتقد أن السياسيين الألمان والشعب الألماني لن يفوّتوا هذه الفرصة، وما الإعلان عن هذه الميزانية العسكرية الضخمة وغير المسبوقة في تاريخ المانيا منذ الحرب العالمية الثانية، سوى بداية الطريق لألمانيا الجديدة.
*صحافي سوري.
#موقع_حرمون، #ألمانيا، #ه.ت.لر، #روسيا، #الغاز، #فرنسا، #الحرب_العالمية_الثانية.