د.حسن احمد حسن*
تناقلت وسائل إعلام مختلفة تصريحات وزير الحرب الإسرائيلي “بيني غانتس” في الإحاطة التي نظمها معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأوسط”، وما تضمنته من أفكار وطروحات عن سياسات “إسرائيل” الأمنية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، والوضع في أوكرانيا، والاتفاق النووي مع إيران، وأنشطتها التي تقلق حكام تل أبيب، وتصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية، والتعاون الأمني مع بعض دول المنطقة في مواجهة إيران ومحور المقاومة، ولم يكتفِ غانتس بتسويق ما يفكر به ويتمناه، بل عرض بضاعته الكاسدة والفاسدة في بازار المساومة للنيل من هيبة سورية بعد أن ضاقوا ذرعاً بقدرتها على الصمود، وعلى رسم معالم النصر الذي يبنى عليه الكثير، واستباقاً لإتمام تبلور ذلك تنطح وزير الحرب الإسرائيلي لتصدير خطاب لم يعد صالحاً للتداول والتعامل مع مفرزاته التي تفرض التسليم الإلزامي ببقاء الدولة السورية قوية ومحافظة على توجهاتها العامة المتمسكة بمركزية القضية الفلسطينية، والالتزام بخيار المقاومة ومكافحة الإرهاب، ولتشويه حقيقة المواقف السورية المشرفة، والتقليل من ألق وأهمية ما تم إنجازه حتى الآن جاءت تصريحات “بيني غانتس” متضمنة اشتراط قطع علاقات سورية مع إيران إذا أرادت أن تكون جزءا من المنطقة والعودة إلى جامعة الدول العربية”.
الغريب بحق أن يتذاكى قادة تل أبيب عبر توزيع مفضوح للأدوار، حيث تكفل وزير الخارجية بحمل بوق الاصطفاف مع أوكرانيا والغمز من قناة روسيا، في حين تمترس رئيس الوزراء ووزير الحرب وبقية أركان الحكومة في منطقة ضبابية للتغطية على ما أمكن من إخفاقات وتصدعات بنيوية يواجهها الداخل الإسرائيلي، وتسويق صورة غير نمطية يمكن تصنيفها ضمن خانة “أنصاف المواقف” أو المواقف المجتزأة، ويبدو أنه تم تبادل الأدوار عندما تعلق الأمر بسورية والمنطقة، حيث اكتفى مؤقتاً وزير الخارجية بمتابعة تداعيات المواقف التي يتم تسويقها، في حين أخذ وزير الحرب الإسرائيلي دور المروّج لدبلوماسية إسرائيلية عنوانها التطاول على الجامعة العربية، والعربدة المنفلتة من كل عقال بإطلاق تصريحات توحي بفرض قواعد اشتباك جديدة، وتصوير العاجز ـ عن تحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب بالإرهاب ضد سورية بخاصة، وضد بقية أقطب المقاومة ـ بمظهر المقتدر والمهيمن، ومع ذلك لم يولّد كل ما ذكر أية ردة فعل ملموسة من قبل الجامعة التي نَصَّبَ “غانتس” نفسه متحدثاً باسمها، وهذا يمثل رسالة مستقلة لا تقل دلالة عن تصريحاته الوقحة والمرفوضة.
استناداً لما تقدم، وانطلاقاً من هذه الصورة الواضحة المتشكلة قد يكون من المفيد التوقف عند مجموعة من النقاط المهمة، ومنها:
• جامعة الدول العربية منذ تأسيسها لم تكن بديلة عن الدول الأعضاء مجتمعة أو فرادى، ولا هي مسؤولة عن رسم السياسة الخاصة بأية دولة.
• الجامعة مؤسسة تنظيمية مهمتها تهيئة الأجواء لضمان اجتماع القادة والزعماء العرب، والتباحث ـ قبيل أي قمة ـ في المواضيع ذات الاهتمام المشترك.
• قرارات الجامعة وفق نظامها الداخلي يجب أن تكون بالإجماع لا بالإيحاء ولا بالإملاء من هذا المسؤول الإسرائيلي أو ألأمريكي أو غيرهما.
• الفرق كبير بين حرص سورية على تفعيل العمل العربي المشترك لما فيه خدمة المصالح العليا لجميع الدول الأعضاء، وبين تنطُّح وزير الحرب لإصدار تعليماته وتحديد شروط عودة سورية إلى الجامعة، والأصح عودة الجامعة إلى ميثاقها ونظام عملها بما يمكنها من تحقيق الأهداف التي أنشئت لتحقيقها.
• عودة سورية لشغل مقعدها في الجامعة يعني عودة الفاعلية والزخم لعمل الجامعة التي كانت شبه مشلولة القدرة على خدمة المصالح العربية منذ لحظة تجميد عضوية سورية، وهذا يعني أن دعوة “غانتس” تفضح خشية حكام تل أبيب من اضطلاع الجامعة بدورها الحقيقي بعد عودة سورية.
• الصفاقة التي تحدث بها وزير حرب الكيان الإسرائيلي تشكل إهانة فعلية وكبيرة لمؤسسة الجامعة، وتطاولاً كبيراً وسافراً على المسؤولين عن الجامعة، وليس على الدولة السورية التي لا تكترث بمثل هذه التصريحات، ولا يرى فيها المتابع الموضوعي إلا تعبيراً عن اعتراف علني بفشل كل الأهداف الإستراتيجية للحرب المفروضة على الدولة السورية منذ أكثر من أحد عشر عاماً، على الرغم من الاستعانة بالإرهاب التكفيري المسلح العابر لحدود الدول والقارات.
• ما يريده غانتس باختصار يعني تخلي سورية عن ثوابتها، والقبول بفرض الإملاءات الخارجية التي دفعت ضريبة رفضها الكثير الكثير، والجميع يعلم أن سورية لم تساوم يوماً على مبادئها ومنطلقاتها، ولم تسمح لأية قوة كانت المساس بثوابتها أو التدخل بتحديد مصالحها الوطنية العليا.
• على “غانتس” وغيره من المسؤولين الصهاينة أن يتذكروا أنهم مهما بلغوا من القوة والعربدة لا يمكن أن يصلوا أعتاب ما تكدس من قوة وجبروت لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعليهم ألا ينسوا أن دمشق الأسد قالت لواشنطن بملء الفيه:”لا” في الوقت الذي كان فيه قرابة ربع مليون جندي أمريكي ينتشرون على أرض العراق بعد احتلاله، أي في الوقت الذي كان أشد صقور اليمين الصهيوني شراسة وعدوانية وعربدة يتحكمون بقرار البيت الأبيض، وكانت غالبية العالم تظن أن أمريكا قَدَرٌ لا يمكن مواجهته، ولا تفادي أخطاره وكوارثة إلا بمجاملته والانحناء أمام أعاصيره وعواصفه، ولكن سورية لم تجامل، ولن تنحني، وبقيت صامدة، وهاهو النظام العالمي بكليته يعيش انزياحات جيوبولتيكية كبيرة، ومبنية على صمود سورية شعباً وجيشاً وقائداً.
• إذا كانت طبيعة العلاقات القائمة التي تحكم سلوك الدول تتطلب أحياناً غض الطرف عن انتهاك هنا، أوتطاول هناك، فإن من واجب النخب الفكرية والإعلامية والثقافية تناول العربدة الإسرائيلية ووضعها على طاولة التشريح الكفيلة بتوضيح الحقائق القائمة على أرض الواقع، ومن المهم فضح العدوانية الإسرائيلية على حقيقتها، وجلاء ما يكتنفها من غموض، وتقديمها للرأي العام لمحلي والإقليمي والعالمي.
– من حق أجيال الأمة وعشاق نهج المقاومة ان يتوقعوا ردا من الجامعة التي أهانها غانتس، بدلا من التزام الصمت المريب
*محلل سياسي وخبير استراتيجي سوري
موقع حرمون