محمود موالدي*
بات واضحاً ذاك التشكيل العالمي الجديد، ليس في أبعاد العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا فحسب، بل في صداها العابر لحدود الجغرافيا، المنعكس اقتصادياً والمقرش بالربح والخسارة على واقع النفوذ، فأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية دخلت البوتقة الأمريكية ضمن المديونية العامة، لتصادر واشنطن قرارها، وتمد نفوذها، فكانت رتمية الحرب الباردة بتصادم المصالح. أما اليوم نتكلم عن جبهة الشرق الجديدة المختلفة بالتشكيل والتركيب، وتعتمد التصاعد الإستراتيجي والتراكم الإقتصادي بشكله التقليدي والنفعي.
تمثل روسيا اليوم الواجهة المعنوية لهذه الجبهة المانعة للتمدد والراسمة لحدود أوروبا. إن تمتعها بوفرة الموارد واختزانها لمنافذ الطاقة، وموقعها الجغرافي، ووجود قيادة تتمتع بالإرادة، أتاح لها التصعيد الإستراتيجي على حساب الضمور الأمريكي، فما تشهده الجغرافيا الأوكرانية إلا اكتمال طبيعي للتصاعد.
تتمتع موسكو بمنظومات اقتصادية مهمة كونها سادس أقوى اقتصاد عالمي، كما أنها تحتل ( %33 ) من انتاج الطاقة المختلفة والغاز وأكثر من ( % 48 ) من استيعاب القمح العالمي، لتتجاوز (%20 ) من الوفرة العالمية في مختلف المعادن، وثاني أكبر منتج للنفط والغاز عالمياً، فيما جمعت منذ السنوات الماضية مخزوناً ضخماً من القطع المالية، فلم يكن عبثاً تصريح الرئيس الروسي حول دعم الحكومة الاتحادية لرجال الأعمال والمشاريع الضخمة، كل ذلك يرتكز على القوة العسكرية و تطوير الأسلحة التقليدية بمفارقات متطورة واستراتيجية، فإذا كانت أهداف العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا المحددة من قبل القيادة الروسية والمعلنة بشكل رسمي متناقضة مع الدعاية الغربية المسوقة بفبركات دعائية لا تعتمد المصداقية، فلا احتلال روسي ولا توسع جغرافي …. ، لكن الهدف الطبيعي هو تقويض توسّع الناتو، حماية موسكو من التهديد العسكري الغربي المباشر كمهمة أساسية، حسب ما أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، تدمير البنية التحتية العسكرية التي يسعى الناتو لتفعليها في أوكرانيا والتي قد يستغلها الغرب في مواجهة روسيا في أي معركة قادمة ومتوقعة، ثم الإبقاء على الاتفاقيات الموقعة سابقاً، فمن وجهة نظر موسكو، أوكرانيا دولة حيادية ومساحة محدودة التسلّح، ويجب أن لا تدخل في التحالفات العسكرية، ولا يمكن تحويلها لأرض خصبة للغرب وتكون أداة غربية في ظهر موسكو. لقد كشفت هذه العملية نفاق الغرب المصادر لكل طاقات العالم والمهيمن على مدخراتها وصانع حروبها، تكشّف الغرب وتعرت أمريكا، فبوجود بايدن أو غيره ستكون ردة الفعل الأمريكية نفسها، ولن أرفع سقف التفاؤل، بل وبكل تواضع أقول، إنه عصر أفول للنجوم الأمريكية بإشارات تخبطها وضعف ردها على العملية العسكرية الروسية التي كانت بمثابة صفعة استراتيجية لا يمكن هضمها، على هوامش التصريحات الأوروبية خصوصاً والغربية عموماً، يبقى التحصيل الشامل للعملية العسكرية الروسية هو إما خسارة الجميع أو تحقيق شروط الهواجس الروسية، فالعقلية الحاكمة في موسكو تدرك تماماً أهداف الغرب من انغماس الروسي في حرب استنزاف طويلة مواكبة لعقوبات خانقة وحظر عالمي جامع، ولعل المخاوف الغربية محقة فهل ستكون أوروبا هي نفسها أوروبا التي نعرفها ….؟ ، سؤال برسم الأيام القريبة القادمة، وعلى فطاحل التحليل الإستراتيجي التريث دون الإنغماس بروزناما التوقع الزمني، لنلحظ عن كثب سيرورة الخطة الروسية بعين الحادق المترقب المرافق للعقل البارد المبادر.
*ناشط السياسي
موقع حرمون