هاني سليمان الحلبي*
وهبته الحياة وجينات الوراثة والطبيعة وعلو المكان بين أحضان حرمون، شيخ الجبال، ميزات اجتمعت في رجل جعلته أيقونة نبل ووقار وحضور ومشاركة وتواضع وحب..
لا يلزمه قرع باب ليدخل الا من مبدأ التخلق الحميد بآداب التواصل والجيرة. فضحتكه حينا وبسمته أحيانا وصوته المجلجل أحيانا يدخل القلوب والأرواح فتنفتح أبوابها والقاعات الفسيحة بلا حدود في وجدان مستقبليه ومن حوله..
أعود بالذاكرة إلى البعيد، هوذا جندي بكل ما تحمل اللفظة من قيم ومعان. استحق احترام رؤسائه ومرؤوسيه وبقي سجلا ناصعا من التلبية وخدمة الوطن وتقاعد من الوظيفة اليومية والدوام اليومي لكنه لم يتقاعد من خدمة منطقته وأهلها، بل بقيت يمناه زاوية قائمة ومليئة بالعزم حين يعز الموقف لرجال تنقذ شرفها ضد احتلال يشته عدو وجودنا أو بوجه جهات طاغية تقفل علينا الهواء إن لم نرهن مساريب حياتنا من بواباتها المتهالكة .
لم يغب عن أية مناسبة لعائلتي رغم المسافة الفاصلة بين مكان إقامتينا. كان سهلا على شهامته وكرمه ونبله أن يبذل ما في الجيب ولا ينتظر كرم الغيب ليلبي واجب تعزية او تهنئة او يحضر توقيع كتاب لصديق او مواطن دعاه أو رفيق.
منذ شهر ونيف التقيته في كاراج صيانة كنا نعالج أعطالا في سيارتينا.. بادرني من جانب بمأثورته المحببة: يا سندي، كيفك.. وانا من لا تفارق البسمة فاهه وجدت نفسي وقد فاضت بفرح تحيته ولفتته ورفعة أخلاقه ودفء قلبه… عدت إلى ذاتي لأعاتبها عما قصرت بحق هذه القامة وبما سندته في أوجاعه فلم أجد سوى رسالة دعوة واطمئنان في الاسبوع الأخير من تموز الماضي عبر الواتس، كنت أدعوه لحضور ندوة عبر موقع زووم لمناسبة انطلاق الثورة الكبرى في تموز العام ١٩٢٥، في سياق الاحتفاء بمئويتها الاولى في العام ٢٠٢٥، وبالتزامن كان بلغني أنه يجري عملية جراحية لعينه. خجلت من نفسي على تقصيري.. واعتذرت أني لم اتمكن من زيارته في المستشفى ولا بعد عودته إلى بيته منها لأسباب لوجستية…
وهو العسكري المجرب، فهم لوجستية اللوجستية فدوت ضحكته في المكان حتى تقاطرت الينا عيون الزبائن ماذا نفعل لنستطلع شلال الضحك دوي حمم مشتعلة…
بعد أن هدأ وتوازن في وقفة السنديان.. أحنى رأسه قليلا الى الامام والجانب قال يا سندي على كل.. معذور.. شو فيي قول غير هيك . أجبته بالعكس كنت ارجوك قبول العذر وليس أكثر. وآمل أن اعوض في قريب عاجل…
وبالتأكيد، واجزم بتأكيدي، أن الحبيب لا حسام معلم ماهر عفوي، وهو حتما لم يتلق أية ورشة او مقرر في لغة الجسد. جسده مطواع لقلبه وروحه. يعزف سيمفونية الحب والألفة بلا تكلف فيفيض نعمة ومحبة. في لاوعيه مدرح كينونته فغدا واحدا جسدا وروحا بلا أي انفصام
ومرت أسابيع قليلة يا أبا حسام كان أن استقبلك في ميتتي السادسة عند باب العالم الابيض، حيث لا طوائف، ولا عنعنات، ولا أحزاب، ولا أديان، ولا مذاهب، ولا بلديات، ولا انتخابات، ولا كورونا، ولا مستشفيات تبتزنا فتقتلنا، لتقبض على ميتتنا مبلغا يضاف إلى النهب الحرام الذي تراكمه مع سلطات وصايتها..
لكن، ها أنا هنا وها أنت سافرت، في أصعب ظروف صحية، فكورونا يتناسل ويتجدد حيث قاربت إصاباته في هذه المزرعة الفالتة اكباشها وكراريزها ١٠٠٠٠ إصابة أمس، والناس غافلون عما ينتظرهم.. ولا يهمهم كثيرا ما سيحل بهم وبأبناىهم من فقر وهوان وضعة.. وفي أصعب ظروف مناخية تخيم على لبنان والمشرق اللذين أحببتهما حتى الثمالة فأقفلت الطرق وسدت المعابر وتراكمت الثلوج أمتارا وبقي احباؤك وأسرتك ينتظرون عودة جثمانك ليقوموا بواجب تكريم تشييعه.
ممن نسمع يا سندي، يا مال العين، على كل معذور.. ومن يقهقه لقلوبنا بعفوية روحه وألق الحضور ..
أبا حسام، أبا نظام، أبا سوسن، … نايف القاضي، ايها الصديق النبيل. ايها الرفيق الرفيق، ايها الشهم كيف تنهد الجبال وتنحني قمم النضال الموشحة بشيب الجلال؟
ماذا اقول للموت، وهو صديق حميم، يقف خلف بابي، وبجانب نافذتي، وقد ارتكب خطيئة لا تغتفر، فأساء التوقيت، وأساء الاختيار، وأساء تحديد المكان، وما يوجبه على فعل ذلك، ألا تستحق المزيد من العقود والسنين؟ الا نحتاجك أسرته وأهلك ومنطقتك وشعبك؟ كيف يختار الملبي الهمام وبعض النظر عن اللئام؟ كيف يوجع أحباءك هكذا بين خبر موتك وسفرك الى بيتك الأبدي؟ ويبقيك في ثلاجة قبله وبعده لتنال أبسط ما تستحق؟
لا عليك، لا تحزن، إن لك في قلوب محبيك دفء الحب وفي وجدانهم ممالك وفاء زاخرة بالخلود لن تزول.
لروحه الرحمة. لأسرتك ولادتك وأحبائك خالص العزء، والمجد للحياة بقيم نبلائها.
*كاتب وإعلامي لبناني.
#موقع_حرمون، #نايف_القاضي، #كورونا، #جبل_حرمون، #عين_عطا، #وادي_التيم