سامر كركي*
نجنح في لبنان تحت رهاب اتفاقات إقليمية – دولية تؤطر مسار الوطن لسنوات عديدة وتُرخي بظلالها تاركة رواسب تُعرّيه عند اي مفترق طرق أو منحى وتُعيد رسم معادلات جديدة يكون للبعض فيها اليد العليا حسب إسقاطات سياسية أو عملياتية في الداخل وفي المحيط العربي الإقليمي.
ما بعد عام 1991 وسقوط الاتحاد السوفياتي وغياب الثنائية القطبية مع الغريم الأزلي أي الولايات المتحدة وتقليم أظافر العراق ودفعه لغزو الكويت، دخلت المنطقة تحت إرهاصات مؤتمر مدريد للسلام 1991 (الأرض مقابل السّلام) وما تبعه من محاولة فرض أجندة طُبّقت في أكثر من منطقة في العالم بدأت بحصار روسيا واعتماد سياسة قوقعتها شرقاً انطلاقا من رئاسة يلتسين حتى أصغر قرار اتُخذ وغاب عنه أي فكر استراتيجي من الحضور السياسي في الأمم المتحدة إلى التعامل مع دول الجوار حتى التدخلات العسكرية المحدودة والتي حجّمت روسيا أكثر فأكثر ضمن النطاق الجغرافي المعروف.
انطلاقاً من الواقع الدولي الذي أرخى بظلاله على كل المشهدية في الشرق الأوسط والذي لوّح برسم مسار الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في لبنان بعد عام 1992 حتى 2005 والذي مهّد له اتفاق الطائف (1989) ليوضع بلد الأرز في ديمومة استقرار نسبي محلي عزّزه التقاطع السوري – السعودي – الأميركي، حيث تغيرت الخريطة السياسية للشرق الأوسط نتيجة عوامل جيوسياسية أثّرت على العالم بدءاً بحربي أفغانستان والعراق واغتيال الرئيس رفيق الحريري وعززت حضور الحركات الراديكالية التكفيرية في أكثر من مكان مستفيدة من البيئة الحاضنة الموجودة للأسف نتيجة عدة عوامل، ومن حركات الإشعال المتنقلة والتي يُتقن الأميركيون لعبها على الوتر الطائفي والمذهبي والتي تغذيها منابر إعلامية وأيديولوجيات عميقة وتشويهات لحقائق تاريخية دامغة.
بالعودة إلى لبنان لم يُحسن اللبنانيون استثمار حالة ما يُسمى “هدنة الَعقد الاستيعابية” بين الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية، فلم نحسن بناء وطن لاعتبارات مصلحية ولطغيان النفحة الطائفية والمذهبية التي تأكل الأخضر واليابس دوماً.ما بعد اتفاق الطائف (1989) والذي كانت تلعب فيه المملكة السعودية دورا كمحاور وتسووي إلى العقد الأخير ونيّف حيث باتت تلعب أدوار مواجَهة لا تُحسنها في أكثر من مكان بدءاً من سوريا والعراق واليمن وحتى لبنان مرورا باتفاق الدوحة المرحلي غير البنيوي والذي كرّس أعرافا جديدة في السلطة التنفيذية بتنا نسمع بالحاجة والدعوة إلى عقد اجتماعي – سياسي جديد وهي دعوة لا تتوفر لها العوامل الدافعة التي تسمح برعاية اتفاق كهذا وذلك لأسباب عديدة:
أولاً: لا يكفي قيام اتفاق جديد أو الدعوة المستمرة لهذا العقد رغبة أحد الأطراف أو أحد الفرقاء وهو بحاجة إلى دعوة صريحة شبه جماعية تحت وطأة ضغوط سياسية اقتصادية لا تكفي بل تحتاج إلى خضة عملياتية عسكرية وفوضى أمنية فائقة.
ثانيا: إن أي عقد اجتماعي سياسي جديد بمعرفة كل من يتعاطى ألف باء السياسة بحاجة إلى غطاء إقليمي- دولي لا يبدو أنه متوفر في المدى المنظور ، حيث يبدو لبنان في آخر أولويات الولايات المتحدة المشغولة بالعملاق الصيني ومسرح عملياتها المحيطين الهادئ والهندي وحتى الدول العربية غير مكترثة ولا تُعير آذاناً صاغية لكل هذا الانهيار المتدحرج.
ثالثا: يتبين أن أي اتفاق تحضر ملائكته أكان في لبنان أم في المعمورة بحاجة إلى نيران تشتعل جذوتها لتمتد عقدا أو عقوداً تمهيداً لـتأمين الأرضية الخصبة له بناء على إشارات من هنا وهناك وتقديم تنازلات تدفع نحو جوجلة جديدة للانطلاق.
رابعاً: إن أي عقد جديد بحاجة إلى رؤى تُترجم قيام دولة مدنية عصرية بعيدة كل البعد عن خبائث البعض والذين يمعنون في تعميق الهوّة أكثر فأكثر بين أبناء البلد الواحد.
خامساً: إننا نتفق أنّ الأزمة هي أزمة نظام وأن لا قرار يلوح في الأفق لانتشال البلد اقتصادياً ومالياً ما لم نقم نحن بمبادرات وحلول ننسف من خلالها وجه البلد الريعي المقيت ونهرول نحو اقتصاد إنتاجي يستطيع في فترة ليست بطويلة البدء بالإنتاج على مستوى الأدوية ومصافي النفط كتكرير ومحاربة الكارتيلات المسيطرة والقابضة على نفس المواطن، فكيف من لا يستطيع التحول نحو هذا الاقتصاد أن يذهب إلى اتفاق جديد تتغير فيه البُنى والآليات المتبعة!
سادساً: تتضارب مصالح البلدان عربية وغربية في لبنان بعد انهيار 2019 فالبعض يريد مناكفة القوى المقاوِمة والبعض يفكر في المرفأ أو شركات التنقيب عن الغاز أو في توسيع نفوذه عبر استخدام بعض القوى التي تضخ نار الفتنة بشكل دائم، ناهيك عن الكيان الصهيوني الذي يرقب المشهد ويحاول تغذية كل ما من شأنه إدامة الفوضى.
بناء على ما تقدّم، إزاء كل ما يعصف بالبلد من انهيارات متتالية وأمام الأوضاع الإقليمية التي تُرخي بظلالها على كل شاردة وواردة فيه، يبقى الإناء لينضح بما فيه ونبقى نصارع على شفير هاوية علّنا نصل في وقت قريب إلى بناء بلد المواطنة والذي لا يعير أي اهتمام لأصوات الفرقة والتباعد والتناحر… وليبق البعض يحارب طواحين الهواء بغصة وحرقة ولْيتّعظ…
*إعلامي وكاتب سياسي.
#موقع_حرمون، #سامر_كركي، #العقد_الاجتماعي، #مؤتمر_الدوحة، #أعراف_سياسية.