سامر كركي
التاريخ يعيد نفسه بوتيرة سريعة، ولكن بدرجة أقسى اجتماعياً واقتصادياً ومعيشياً، مع فارق انغماس لبنان في الماضي في حرب أهلية ضروس لم تُبقِ ولم تذر، ولكننا بعد أكثر من 30 عاماً نشهد حروباً ناعمة اقتصادية وتكنولوجية وتقنية، عمادُها تفتيت المناطق، فكيف إذا كانت هذه المناطق آيلة إلى السقوط عند أول هبّة رياح أو نسمة تتمايل بها يميناً ويساراً، إذ يتداعى الهيكل ذو المداميك العوجاء، بينما نجد أبناءه يتمايلون على حبال شتى ووعود متنوعة ورسم أطر لمراحل قادمة تبدو فيها أي خطة اقتصادية ذات رؤية بعيدة المنال!
في الشكل، تشبه هذه المرحلة في لبنان مرحلة 1987-1988، وهي التي شهدت انهياراً كبيراً لسعر صرف الليرة أمام الدولار، ففي كانون الثاني/يناير 1987، سجّل سعر الصرف 86 ليرة، ليصل في 13 نيسان/أبريل (ذكرى الحرب الأهلية) إلى 120 ليرة، ويواصل ارتفاعه في آب/أغسطس ليصل إلى 287 ليرة، ويسجل في تشرين الأول/أكتوبر 306 ليرات، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 550 ليرة، وكنا نسمع بما نسمعه يومياً منذ سنة ونصف السنة تقريباً بمطالبة حاكمية مصرف لبنان من لجنة الرقابة تقصي المضاربة غير المشروعة (وهو ما تطلبه حالياً السلطة التنفيذية كل فترة)، تنفيذاً لقرار قاضي التحقيق آنذاك، كما أذكر، جورج غنطوس.
وشهدنا أيضاً رفع الدّعم عن البنزين بعد إعلان الوزير المسؤول آنذاك فيكتور قصير ذلك، إذ سُعرت الصفيحة بـ700 ليرة، ليعقبها في نهاية العام رفع سعرها إلى 1400 ليرة، لتعم الإضرابات في بيروت والمناطق، بعدما رافق رفع الدعم ارتفاع في الأسعار لامس كل شيء، وبشكل جنوني، ناهيك بما رافق تلك المرحلة من تفجيرات يومية وعبوات ناسفة وعمليات خطف مواطنين محليين وأجانب وبعثات دبلوماسية واعتداءات إسرائيلية متواصلة، إضافةً إلى الاستعداد للانتخابات الرئاسية في نهاية العام 1988، وما رافقها من أجواء محمومة وتدخلات خلطت الحابل بالنابل.
ما بين الأمس واليوم تشابه كبير، ذكرنا أبرزه آنفاً، وتخرقه عدّة نقاط، أبرزها:
أولاً: إن الظروف كانت قد نضجت وقتها، أي بعد 1987-1988، لاتفاق يوقف الحرب المستمرة منذ العام 1975 بين يمين ويسار، وجبهة وحركة، وبين طوائف ومذاهب وحرب آخرين (سمّها كما شئت)، إذ كان هناك شبه توازن بين قطبين كبيرين (الأميركي والسوفياتي)، رغم التخلخل الكبير الذي أصاب السوفيات بعد حرب أفغانستان وشرنوبيل (أوكرانيا)، وتصدّع الرؤية الاقتصادية الهشة التي وضعها غورباتشيف، فيما لا يوجد اليوم أمل قريب بأي عقد اجتماعي أو سياسي جديد يعيد بعض الصلاحيات أو يعوّم طرفاً على أطراف أخرى، نظراً إلى عدم نضوج الظروف الإقليمية والدولية، ولانشغال الدول الكبرى وتفرج البعض على انهيار لبنان أو تشجيع فكرة “استقرار الانهيار”.
ثانياً: إنَّ مقاربة الإدارة الأميركيّة وقتها (إدارة ريغان) للصراع العربي – الإسرائيلي ولدور لبنان وديمومته، تختلف عن إدارة بايدن التي تجد أن الصراع مع الصين هو أولويتها، وتكاد تتخذ قراراً بمغادرة المنطقة مع تنظيم خروجها وفق أولوية الكيان الصهيوني أو طمأنة حلفائها بالحد الأدنى قولاً، بينما نجد أن وزير الخارجية الأميركية آنذاك شولتس أو الدبلوماسية الأميركية تعمل على خط بيروت – دمشق – واشنطن، ولا ننسى وجود قوات متعددة الجنسيات وقوات أميركية قبل ذلك بوقت قصير، وحاملات الطائرات والمدمرات في البحر المتوسط.
ثالثاً: بروز لاعبين جدد على الخريطة الشرق أوسطية، والانطلاق في دور جيوسياسي، كالدور التركي والمصري والعراقي والأردني بدرجة أقلّ، لتقديم أوراق اعتماد لدى الولايات المتحدة وغيرها، بينما اقتصر الدور في 1987-1988 على الأميركي والفرنسي والسوري الحاضر بقوة التاريخ والجغرافيا والحدود، وأدوار سعودية وإيرانية متفرقة.
رابعاً: لا تحبّذ العديد من الدول وقف الانهيار، أكانت عربية أم كبرى، لتستمر بمناكفاتها مع المقاومة تارة، ولتحصيل مكاسب في بقاع أخرى من العالم العربي تارة أخرى، بينما استعجلت وقتها الحل في لبنان لعدة اعتبارات، من بينها تطويق العراق، ومحاصرة الجمهورية الإسلامية، والتفرغ لمؤتمر مدريد 1991 (“الأرض مقابل السلام”)، والاستفادة من مرحلة ما بعد الإعمار.
خامساً: يبدو الفراغ آتياً في العام 2022 ما لم تحصل تطورات تعطي الضوء الأخضر لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، فكما قال مورفي وقتها: “مخايل الضاهر أو الفوضى!”، فمن سترتفع أسهمه في نهاية العام 2022، ليُقال عنه أنه هو ولا استمرار الفوضى التي بدأت في العام 2019.
سادساً: إنّ ما يجمع تلك السنوات المريرة وهذه السنة الأمرّ هو التدهور المستمر وسحق المواطن المعدم أصلاً، والذي لا ناقة له ولا جمل في مجتمع فقد كلّ مقومات الصمود والعيش الكريم وأدنى مقومات الاستمرارية.
سابعاً: ما بين بعض الأدوار التي أدّاها صغار القوم وقتها وما يؤدّونه اليوم مصير واحد، وما كان يستخدم للشرذمة والتفرقة يعاد استخدامه على مستوى أكبر بأهداف أوسع وبطموحات جلية بدأت منذ فترة ولا تنتهي عند الانتخابات النيابية المقبلة.
بناءً على ما تقدّم، تتكرر تلك السنتان المريرتان (1987-1988)، واللتان تلاهما هدوء نسبي طيلة 15 عاماً، وبُنيت بعدهما الدولة باستراتيجيات خاطئة وبرؤى بائسة تُعاد، ولكن هذه المرة نحن في زمن المناكفات والنزالات الإقليمية القاسية والحروب الناعمة، والتي تحاول جاهدة قطع أوصال الأوطان بكل معانيها التعيينية والتضمينية. المشهد قاتم، والحاكمية تتسيّد، للأسف!
الميادين نت