د.عصام نعمان*
لا ريب في أن المجزرة التي ارتكبها اعداء المقاومة وخصوم حزب الله وحركة امل بحق المتظاهرين السلميين منذ أسابيع، وضعت البلاد على شفير فتنة طائفية لعلها أقسى بكثير من المجزرة التي وقعت في المحلة نفسها العام 1975 وأدت بتداعياتها السياسية والطائفية الى حرب أهلية دامت لغاية العام 1990. من هنا فإن السؤال المركزي المطروح في لبنان الآن هو: كيف نتفادى الفتنة الطائفية الماثلة؟
مردّ الخوف من الفتنة الماثلة ان مسار التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت ادى الى انقسام سياسي وشعبي عميق ومقلق بين فريقين: الاول يتصدره حزب الله وحركة امل وتنظيم المردة وحلفاؤهم من عروبيين ويساريين، والثاني يتصدّره حزب القوات اللبنانيّة وبضعة أحزاب وهيئات يمينية معادية للمقاومة ويجاريها، لأسباب قانونيّة ودستورية ضاغطة، التيار الوطني الحر، وهو حزب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
ليس أدلّ على تورّط حلفاء أميركا المحليين المعادين للمقاومة في المجزرة من أن جميع الشهداء والجرحى هم من المتظاهرين السلميين والأنصار المنتمين الى الفريق الاول المعترض بشدة على مسار تسييس التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت.
تتعالى الأصوات المطالبة بمقاضاة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لكونه تبنّى ما ارتكبه انصاره ضد المتظاهرين بدعوى انهم من ابناء المحلّة الذين دافعوا عن أنفسهم ضد الذين كانوا على وشك اجتياحها!
صحيح انه يقتضي التوسع في التحقيق ليشمل جميع الأفراد والأحزاب والجماعات المتورطة في ارتكاب المجزرة النكراء، سواء كشركاء او متدخلين او محرضين، واحالتهم على القضاء لتوقيع اقسى العقوبات بحقهم، لكن المخاطر الماثلة بشأن إندلاع فتنةٍ طائفية كارثية تستوجب أيضاً العمل الجاد لتفاديها لكونها من تصميم وإعداد القوى المتحالفة مع اميركا ومن ورائها الكيان الصهيوني بقصد استهداف المقاومة والعيش المشترك والسلم الأهلي وصولاً الى إشعال نيران حرب أهلية.
مواجهة الفتنة تكون بإيجاد مخرج وطني من الأزمة المستفحلة يكفل توطيد السلم الأهلي والاستقرار وصون المصالح الوطنية العليا. لعل ذلك يبدأ بإقرار إهل السلطة بأن مسار التحقيق في جريمة تفجير المرفأ استولد تدخلات خارجية أفرزت خلافات داخلية وانحرافات في مسار التحقيق أدت الى تصديع الوفاق الوطني ما يستوجب نقل القضية من المجلس العدلي إلى المحكمة العسكرية لكون نترات الأمونيوم مادة تدخل في تصنيع المتفجرات وتقع تالياً ضمن صلاحيات المحكمة المذكورة، وكان يقتضي أصلاً إحالتها عليها.
يردّ البعض على هذا المنطق بأن مجلس الوزراء كان اتخذ قراراً بإحالة القضية على المجلس العدلي وأن يده ارتفعت تالياً عن القضية وما عاد من حقه سحبها من المجلس العدلي وذلك عملاً بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عنه في الدستور.
آخرون ردّوا على هؤلاء بدورهم، منهم النائب العام السابق لدى محكمة التمييز القاضي العالم حاتم ماضي “بأن قرار الحكومة بإحالة القضية على المجلس العدلي هو قرار سياسي في شأن قضائي تتخذه الحكومة عندما تكون الجريمة ماسّة بأمن الدولة وبالتالي يجب أن تبقى لهذه الحكومة وحدها صلاحية ردّ المحقق العدلي وتعيين بديل منه بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى تطبيقاً لمبدأ موازاة الصيغ” (راجع مطالعته بالاشتراك مع المحامية جوديت التيني في صحيفة “النهار” تاريخ 14 تشرين الاول/اكتوبر 2021).
إن من يقدر على الأكثر يقدر على الأقل. فالحكومة القادرة على ردّ المحقق العدلي وتعيين بديل منه بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى تكون قادرة بلا شك على تصويب مسار حماية أمن الدولة وضمان العدالة بتعديل قرارها الأول ونقل قضية التحقيق في تفجير المرفأ من المجلس العدلي الى المحكمة العسكرية لكون هذه المحكمة هي الأَولى بصلاحية النظر في قضية موضوعها مواد تدخل في تصنيع المتفجرات.
فوق ذلك، أرى أن في وسع الحكومة الاستناد أيضاً الى نظرية الظروف الاستثنائية لتعليل سحب القضية من المجلس العدلي وإحالتها على المحكمة العسكرية. فنظرية الظروف الاستثنائية لا ترتكز الى احكام الضرورة فحسب بل ايضاً الى واجبات السلطة السياسية والإدارية في تأمين أمن الدولة والنظام العام وتسيير المرافق العامة ومجابهة الاحداث الخطيرة. في هذا السياق، اعتبر مجلس الدولة الفرنسي ــ وهو أعلى محكمة ادارية في فرنسا ــ قراراً شرعياً ذلك الذي اتخذه رئيس مجلس بلدية مدينة فكام في شهر حزيران/يوليو 1940 بفرض رسم لتأمين إعاشة الأهلين مع ان فرض الضرائب والرسوم عائد الى السلطة التشريعية دون سواها (راجع كتاب: الوسيط في القانون الاداري، لمؤلفه جان باز، صفحة 429).
هذا مع العلم أن قرار نقل قضية تفجير المرفأ الى المحكمة العسكرية من شأنه تفادي اتهامات بعض الأوساط بأن انتقاد نهج التسييس والاستنساب في التحقيق الذي يتبعه القاضي طارق البيطار يرمي الى “قبعه” من مركزه. فنقل الدعوى من محكمة الى أخرى يحفظ كرامة القاضي المذكور لأن لا غضاضة في إنهاء صلاحيته بسبب نقل القضية من المجلس العدلي الى المحكمة العسكرية لأسباب قانونيّة وأخرى تتعلق بأمن الدولة والسلم الأهلي.
هل من خيار أفضل؟
*وزير ونائب سابق.