د. قصي الحسين*
يحتاج لبنان قبل خطوة الانتخابات النيابية المقبلة، إلى تصحيح خطوات كثيرة، قبل هذا الموعد المفصلي، بعد سنوات من التخبط، التي أضرّت به، وجعلته يترحّم على أيام زمان.
ثلاثة عوامل أساسيّة، ضربت الجمهورية اللبنانية، وتركت عليها تداعياتها المؤذية، وتردداتها الضارة. وفدت إليها تباعاً، وهزت جدرانها ودكت بنيانها، وجعلتها تتخبّط في ما تتخبط به الآن:
1- صفقة القرن التي أتى بها الرئيس الأميركي ترامب بصحبة نتنياهو، ليسوّقها في المنطقة العربية.
2- المفاعل النووي الإيراني الذي صار فجأة محور الصراع في الشرق الأوسط.
3- قانون قيصر الذي آذى لبنان وسوريا معاً، وجعل البلاد تضطرب وتهتز.
أمواج عاتية، أشبه بـ “التسونامي”، وفدت إلى لبنان، وضربته وهزت بنيانه ودكته دكاً، وهو في أسوأ أحواله الداخلية، وفي أسوأ لحظة يمر بها، من لحظاته التاريخية.
هذه العوامل الدولية والإقليمية الثلاثة، كان لها من التأثير على هشاشة الكيان الحديث، المؤسس منذ مئة عام، بحيث جعلته يتحوّل إلى ركاميّات تتشكل فوقه منها، طبقات طبقات، تماماً كما جعلت “فيله” يتخبّط في ما يتخبط فيه من خوار وضعف وتهالك ودماء.
فجرت “ثورة 17 تشرين1” الكيان اللبناني، ورمته أرضاً. فجرت كل ما فيه من اهتراء و من عفن. فجرت حكومته. فجرت سياسته. فجرت الوزارات والإدارات. وأصابت ضرباتها البنوك والشركات والمؤسسات. وجعلت ثقة العالم تتراجع بلبنان، إلى أدنى مستوياتها التاريخية.
تراكمت الأحداث الجسام في لبنان فوق بعضها. فبعدما أعدمت قطاعاته ومصالحه الإنتاجية، في المياه والطاقة والنقل، وكذلك مرافقه السياحية العامة من فنادق ومطاعم ومتنزهات ومنتجعات، أصيبت مدنه وقراه بالشلل العام، جراء الاهتزازات الأمنية.
فطرابلس في الشمال، تعيش يومياً على وقع الأحداث في أسواقها الداخلية، وفي حاراتها كافة. حتى غدت مدينة مشلولة، مسلوبة الروح. أما الأقضية المحيطة بها، فهي تشهد يومياً الصراعات السياسية والمناطقية والطائفية والعشائرية. فتخرج القوى المتصارعة بأسلحتها (وادي الجاموس بعكار مثالاً): بنادق حربية ورشاشات ومدافع وقنابل وكمائن، فتقتتل العائلات، لأيام وأيام، تحت أعين الدولة، بكافة أجهزتها، وتحت أعين الحكومة الطرية العود.
النماذج على التفلت الأمني في لبنان كثيرة، وكلها من العيار الثقيل: في وادي خالد وفي بيت جعفر وفي المنية والضنية. وفي الكورة وفي زغرتا الزاوية. ناهيك عن الحوادث الأمنية المتنقلة على طول الساحل اللبناني، وأبطالها من العشائر والأهالي والأحزاب. وكذلك في المناطق الداخلية، وعلى الحدود، حيث يظهر السلاح لأسابيع طويلة، بين المتقاتلين، ولا تدخل الدولة بينهم إلا صلحاً، لأنها أساساً لم تضبط تهريب السلاح. ولم تضع حداً لتسلح الأحزاب والميليشيات والعشائر، من جديد.
لبنان يعيش أسوأ لحظاته التاريخية. وهو يحتاج لضابط إيقاع داخلي. تماما كما يحتاج لضابط إيقاع خارجي. وخير مثال على ذلك، ما يصيب البلاد قبل تشكيل الحكومة، أية حكومة، وما يصيب البلاد أيضاً، أثناء تشكيل الحكومة. وما يقع للبلاد، بعد تشكيل الحكومة. فكل تكليف، كما كل تشكيل لحكومة، إنما يحتاج إلى دهر من المفاوضات بين القوى الداخلية، وكذلك بين العواصم والمحاور والقوى الخارجية. ويبدأ الضغط على لبنان، ويشتد الأذى على بنيانه المدني والإداري، وعلى هياكله العلمية والإنتاجية. وتسقط هيبة الحكم وهيبة الحكومة، كما هيبة الدولة في عيون شعبها، وتتراجع كذلك في أنظار أهل الداخل، كما في أنظار أهل الخارج، إلى الحدود الدنيا.
لبنان يمرّ في أسوأ أزماته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. تراه يتخبط، في إدارة أزمته الاقتصادية، فيعجز عن وضع الحلول الناجعة، حتى لسعر الرغيف. ويتخبط في إدارة أزمته السياسية، فيعجز عن إيجاد حل لإجتماع الحكومة وإنعقاد مجلس الوزراء، و لتسيير العمل الحكومي. ويتخبط أيضا وأيضا، في إدارة أزمته الدبلوماسية. هذه الأزمة التي كانت قد بدأت منذ سنوات، بعد مصرع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعد الخروج السوري من لبنان. ثم أخذت في الاتساع شيئا فشيئا، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، في أواخر أيام حكومة سعد الحريري الأخيرة، وبعدها في أيام حكومة حسان دياب، وصولاً إلى هذه الأيام، حيث تترنح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بعد أسابيع على تشكيلها، على وقع الضربات التي أنزلت بها، من قبل المكونات السياسية لها، ومن قبل الأطراف الخارجية المؤثرة والمراقبة، على حد سواء. والتي كادت أن تطيح بها، أو هي في طريق الإطاحة بها، على حساب البلد والناس.
لبنان يحتاج إذاً إلى من ينقذه حقاً، مما وقع له، ومما يقع فيه الآن. لبنان يحتاج إلى “تصحيح التخبط” الذي يعاني منه اليوم، قبل الذهاب إلى الانتخابات. وأول غيثه، أو أول إغاثته، يبدأ من تصويب علاقاته الدبلوماسية مع الأطراف الضاغطة عليه، في الجوار وفي الإقليم، وأبعد من ذلك بقليل حتى مراكز القرار. فليس من المنطقي أن تجري هذه الحكومة الانتخابات النيابية المقبلة، تحت هذه الأزمات الدبلوماسية الضاغطة عليه حتى القتل السريري. كذلك يجب الإلتفات إلى تصويب حياته السياسية في الداخل، بحيث يكون الهدوء سيد الأحكام، بين القوى السياسية المتصارعة. كذلك هو بأمس الحاجة، للنظر في شؤون الناس الاقتصادية، وعدم ترك الأمور تجري على عواهنها، بحيث تدبّ الفوضى ويعم الشغب من جديد، في البلاد.
إن “تصحيح التخبّط” في لبنان، هو أول الشروط الأساسيّة، لإجراء الانتخابات النيابية المقبلة، في ظروف طبيعية. وإلا فما الفائدة إذا ربحنا الانتخابات كيفما كان، وخسرنا لبنان.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية.
#د.قصي_الحسين، #الجامعة_اللبنانية، #الانتخابات، #التخبّط، #لبنان، #موقع_حرمون، #حكومة_ميقاتي.