هاني سليمان الحلبي*
صديقي يحيى،
منذ ساعات مرّت على واجب تعزيتي بك في قاعة راشيا العامة. وللأمانة أهمس في أذنك لم أتمكّن من حضور مأتمك الحادية عشرة قبل الظهر، لأشيّعك للمرة الأخيرة.
لم يكن لديّ رقمك ولا عنوانك ولم يكن بيننا اتصال طيلة عقود من السنوات.
ولسوء الحظ، أو لحسنه، جمعتنا رحلة قصيرة من مستديرة الكولا، في بيروت، إلى مفرق قرية شويت حيث كنت تسكن، كانت قصيرة جداً لما يجب أن يتحادث فيه صديقان متهاجران لعقود.
في تلك الصدفة – العبرة، ومن دون أي موعد، أو ترتيب من أحدنا، تحدّثنا عن الصحة والأسرة والظروف المتشابهة نسبياً بيننا، وعن العمل وقلتَ لي إنك تسلمت وظيفة في شركة مياه بيروت التي تقاعد منها المرحوم والدك..
بقي السؤال معلقاً لماذا التقينا؟ وما العبرة فيه؟
خامرني شكّ أسود أنه ربما لقاؤنا الأخير في هذا الجيل.
إذ كنا واجهنا بضعة عقود سوداء، لكنها لا تخلو من محطات بيضاء. فأولادنا هم بعضها، كما كان وجه ابنك شادي مضيئاً وباسماً اليوم بين الحضور، رغم هول مصاب أن يفقد النجل الأكبر أباه وهو في مطلع ستينيات عمره. ومن دون أن يعرّف أحد عليه فإنه متقمّص ملامحك بفارق لون الشعر فقط وحجم الجسم.
يا صديقي، هناك الكثير من الجمال الخفيّ خلف نقاب الحزن البارد والقاسي، وكنتُ أربأ بأعصابك أن تحتمل الجبال، كما كنتَ مجلياً في تدريباتنا التي تعلّمناها وحدنا عن النجم بروسلي، لما زرنا سوق ضهر الأحمر واشترينا بالاشتراك بيننا، لضيق ذات اليد، كتابه “بروسلي نجم الكونغ فو” وشرعنا نتدرّب بشكل يوميّ، حتى أتقنّا الكثير. كنت أثق بهذا الجسم المتراصّ أن يصمد مهما قست الآلام. آلام الطلاق. آلام الموت. آلام الحياة. آلام المرض. لكنه هوى، نهار الخميس، كسنديانة عتيّة في جبل حرمون.
وأنا أجول ناظريّ بين الحضور، تسارعت مشاهد رفقتنا إلى أوسط سبعينيات القرن الماضي. كان افتتاحها يوم رأيت عمالاً يغتصبون كرماً وحيداً بمحاذاة الطريق العام، ليحفروا حفراً عميقة متباعدة، تحيط به قناة عميقة لتحميه من سيول مياه الأمطار في حي البيادر، التي تبدو وكأنها تابعة للمناخ المداري في الصين أو الهند، تجرف المياه الملوّنة بالتراب الأبيض وكل ما يقف في طريقها. تلك الحفر كانت قواعد البيت الذي شكّل لنا الدفء والودّ، برعاية والد أنيق مجدّ صبور مثابر ووالدة حازمة ومدبّرة معطاء، وكانت سيارة بيضاء صغيرة الحجم، يفتح بابها بعكس دوران أبواب السيارات في الكرة الأرضيّة كلها، لكنها أيقونة الأسرة.
لم تكن الوالدة الحازمة تخفي انزعاجها من كثرة لقاءاتنا، التي كانت تصفها وكأنها غرام، وكان يؤلم الواحد منا أن يغيب عن صديقه يوماً. يشكو إليه خفقات قلبه. يسرّ إليه أسراره التي تبقى وقفاً عليه، فلا يصرّح بها لغيره. تظللنا معظم أشهر السنة سروات مباركات زرعها أهلنا برعاية الجيش اللبناني عندما كان يقوم بواجبه الاجتماعي، وحيث يتولى ضابط فهيم متمرّس كالعقيد المرحوم الجنوبيّ غالب فحص. كنا نجلس تحت تلك السروات ونسند ظهورنا إلى جذوعها الضخمة وقد مسحت قصماننا بالصمغ الأصفر. ونضع تحتها حجارة مقصّبة نعُم وجهها من كثرة القعود عليها فتمسحها الثياب وتغسلها الأمطار. تتطاير قصصنا في الهواء وتعانق الأغصان لعلها تصل الحبيب فتبثه الشوق.
قوي موقفنا نحو والدتك لما عرفت فائدة يتيمة من صداقتنا، غير الهذر والسهر والطفر، عندما غالى بلاط بسعر متر البلاط، فشكوت الأمر لصديقنا المشترك محمد شرف الدين، أبو هادي، فاقترح عليك أن يعطيك قواعد التبليط، وأنت تتولى تبليط المطبخ. وبعد درس قصير وتمرين عمليّ نجحت في الامتحان وأخذت تبلّط على مهل مطبخكم. وبعده انتقلت إلى تبليط أرضيات الغرف كلها. فخففت المرحومة والدتك من دورياتها وإجراءاتها الأمنية ضدنا.
كنا كثرة، لكن ثلاثتنا أنا وأنت ووسام، كنا عصبة. ليلة للمشي بضوء القمر حتى الفجر، وليلة شتائيّة تدعونا لزيارة عمتك المرحومة نايفة، نشوي البطاطا والكستناء واحياناً تحتفي بنا بأكلة رز بحليب او مهلبية او عيش السرايا أو لزاقيّات، نتشارك العمل جميعاً كأننا واحد، وتعاملنا بمحبة ولطف وفرح كأننا أبناؤها على شرف حبيبها يحيى. وكنا نحن نتقن التمتع بذلك العز الغابر، رحمه الله أيضاً. ونحن ننتظر دورنا.
ثم رغبتَ بدراسة الكهرباء في مهنية مشغرة، وكنت لا تخفي مغامراتك في الغربة المشغريّة عنا، لتظهر كم تقدمت علينا نحن المدفونين في أزقة راشيا. وبخاصة عندما أبدعت بمناسبة أول آذار 1979 في جمع عشرات المصابيح الحمراء على لوح خشبي كبير رسمنا عليه شارة الزوبعة وحدّدناها بالإضاءة، رفعناه على سطح محال بيت سابا، التي اشتراها لاحقاً المغترب القادم من أفريقيا المرحوم توفيق علبي. حينها صرت بنظرنا أديسون القرية.
في صيف ذلك العام قمنا بمغامرتين مشهودتين، قررنا معاً الصعود إلى جبل حرمون في آب، لمناسبة عيد التجلي، كان يحدونا الوصول إلى القمة، لكننا لم نبلغها. على تلك السفوح ذقنا طعم ومعنى الجملة الشهيرة “نخر البرد عظامي”، بعد ان قضينا ليلة سيبيرية على وهج النجوم اتجهنا إلى غرب الجبل منطقة الفاقعة لنعود كعسكر مكسور مضرّجين بالتعب عبر وادي سكين فحي الحمراء فإلى بيوتنا قانعين بأن من لم يرد صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.
لكن ما أن حلّ أيلول حتى تنادى الأهالي إلى تقسيم الحِمى، وهي الغابات المرفقة بأراضي البلدة، بسبب نفاد مادة المازوت وحاجة الأهالي لحطب التدفئة، فذهبنا متجاورين كما في حيّنا، كذلك إلى شميس القصر لنقطع الأشجار ثلاثة أيام ونأتي بها لتدفئة الشتاء.
أخذنا نفكر في آذار 1978 بعد عملية الشهيدة دلال المغربي، والرد اليهوديّ عليها باحتلال أراضٍ لبنانيّة وإنشاء ما سمّاه العدو “الجدار الطيّب”، بخطة حول كيفيّة تصرّفنا في حال تقدّمت قواته إلى بلدتنا. وصرنا نحصي ببساطة وحماس من يمكنه أن ينضم إلينا في هذه الحال. كنا نتخايل فقط. لكن الخيال لم يطل الوقت ليصبح حقيقة مرّة بعد 4 أعوام فقط لنكون أمام واقع دونكيشوتي سقطت فيه أقنعة ملوّنة كثيرة مع الاحتلال في حزيران 1982 ، وبعده باعدت بيننا الأيام والظروف لدرجة مريعة دامت عقوداً..
يحيى،
ربما المناداة الأحبّ إلى قلبك (أبا شادي)
ووالد ميرنا أرملة الشهيد رامي سلمان، وشقيق أكرم وشمس الدين وحسام وربيع، لم تفقدك أسرتك فقط، فقدتك راشيا كلها، وكل من عرفك، ودوداً، طيباً، رياضياً بطلاً في نادي التايكواندو وكنا لم نتخطّ الحزام الأصفر ولم يمض على بداية فتح النادي أكثر من 4 أشهر، حيث أصر مدربنا البطل العالمي نبيل أبو زرعا، أن نقوم بمنازلة نادي الكونغ فو في زحلة وأنت ألبسك المدرب الحزام الأسود ضد لاعب متمرّن يحمل الحزام الأسود فعلاً ويتدرّب منذ حوالى 3 سنوات وواجهته وربحت المباراة عليه. كنت نجم تلك الليلة بلا منازع.
وكنت تصرّ على وراثة أسرتك جينات القوة البدنيّة، وكثيراً ما تتباهى بجدّك المرحوم حمد فرحات الذي كان يمسح بإصبعه طبعة العملة النقدية المعدنية، فنناقشك، في متانة المعدن وصلابته واستحالة التصديق. ويأخذ كل منا يستعرض حكايا عضلات جده.. وأباهيك بجدي محمد والد جدي علي الذي قاتل فصيلاً من السنغاليين عام 1914 قرب تنور أبو علي يوسف في شارع الميدان وقيل إنه كان يرفع اثنين من عمالقتهم ويصدمهما ببعضهما فيقعان على الأرض، لكنهم قتلوه وحرقوا جثمانه.. ونغرق في ضحك مديد يتردد صداه في عمرنا كله..
حقاً في كل منّا طفل ساحر وشاب يبقى ممسكاً بمقود الروح طيلة الأيام..
لا عليك.. لا تحزن..
في الموت إسدال ستار شفاف على مسرحية حياة، لكن مشاهدها تستمر أمام الستارة وخلفها، بلا توقف. وما يُقدّم أحدنا للحياة من خير وعمل وأسرة محبّة هو خير عطاء..
عسى أن يكون ألمُك خيرَ مطهر لروحك، وهي ماثلة أمام رب جبار. رحمك الله وعوّض أسرتك فقدانك بالحب والبركة والرضا.
*كاتب وإعلامي، مؤسس موقع حرمون.
موقع حرمون، يحيى قاسم إسحق، راشيا، كونغ فو، تايكواندو، الفاقعة، عيد التجلي.