د. عصام نعمان**
يعيش لبنان أزمة مستعصية منذ سنوات . ما من مؤشر واضح الى خلاص قريب منها. بالعكس ، الأزمة تزداد تعقيداً في جميع الحقول ، والصراع على أشده بين أطراف سياسية عدّة .
لعلني ، وغيري كثر ، ممن يعتقدون أن لا حل للأزمة المزمنة في ظلِّ نظام المحاصصة الطائفية القائم والمنظومة السياسية الهرمة التي تديره. غير ان ثمة ضغوطاً متعاظمة من الشعب المقهور بالفقر والغلاء والشح المتزايد في الأغذية والأدوية والكهرباء والوقود ، والمستنزَف بهجرة العقول والكفاءات والاختصاصيين ، ولاسيما الأطباء والممرضين. كل هذه المصائب والمصاعب دفعت قلّةً من المسؤولين وكثرةً من المواطنين الى البحث عن مخارج آمنة من الأزمة.
بين هؤلاء الباحثين عن مخرج لائق يتبدّى موقفان، وتجري مداولة بخيارٍ إستثنائي في هذا المجال. الموقف الأول قديم وتقليدي . إنه انتظار الترياق من الغرب عموماً ومن الولايات المتحدة خصوصاً . ثمة دافعان وراء هذا التوجّه : مصالح إقتصادية ونزعة ثقافية متجذّرة. المصالح لها أهلها من محتكرين وأصحاب مصارف وتجار ومقاولين ووسطاء ووكلاء وعملاء. الثقافة قديمة راسخة. إنها ثقافة الغرب ، الاوروبي والاميركي ، بثها منذ اواسط القرن التاسع عشر من خلال مدارس وجامعات ومؤسسات اقتصادية وثقافية أجنبية انتجت أجيالاً من الطلاب والمتعلمين والمثقفين والمهنيين والسياسيين الذين يعتبرون الغرب ، بكل وجوهه، مصدر حضارة ورقي وإلهام.
التطلّع الى اميركا ، وجزئياً الى فرنسا ، إلتماساً لمخرجٍ من الأزمة لا يعني بالضرورة ان تقوم هاتان الدولتان بتوفير المال والوسائل اللازمة للإنقاذ والنهوض من مواردهما الذاتية بل بإستخدام نفوذهما وتأثيرهما على مؤسسات عالمية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ، ووكالات الأمم المتحدة ، كما على شركات عملاقة خاصة معنية بالإستثمار في دول أجنبية.
في هذا المجال ، تضغط الولاياتُ المتحدة بإستمرار من اجل ان يجد لبنان مخرجاً لأزمته من خلال التفاوض والإتفاق مع صندوق النقد الدولي.
الموقف الثاني من الأزمة وسبيل الخروج منها تنادي به قوى سياسية وخبراء اقتصاديون معارضون للغرب عموماً ولأميركا خصوصاً لأن الأخيرة لم تستطع ، أو ربما ما ارادت ، توفير مخرجٍ لائق من الأزمة لدافعٍ سياسي فاقع هو عداؤها، بتحريض من الكيان الصهيوني ، لحزب الله وحلفائه. هذه القوى المعادية لأميركا وحلفائها المحليين ترى المخرج الآمن من الأزمة المستعصية بالتوجّه شرقاً والتعامل والتعاون مع الصين وروسيا وايران كما مع الدول العربية الراغبة في ذلك. في هذا السياق ، أقدم حزب المقاومة، بعد تفاقم ازمة الشحّ في الوقود ، على إستيراد مشتقات نفطية من ايران بالليرة اللبنانية ، وقام بتوزيع كميات من المازوت على المستشفيات ودور الأيتام لتمكينها من تشغيل مرافقها.
غير ان التطور الأبرز في هذا المجال تبدّى مؤخراً بزيارة قام بها وزير خارجية ايران حسين امير عبد اللهيان الى لبنان وجال خلالها على رئيس الجمهورية ميشال عون ، ورئيس مجلس النواب نبيه بري ، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ، وختمها بمؤتمر صحافي اكد خلاله استعداد ايران لمساعدة لبنان للعبور من ازمته بالتدابير الآتية :
إستثمارات ايرانية او لبنانية-ايرانية مشتركة لبناء معملين لإنتاج الكهرباء ، واحد في بيروت والآخر في الجنوب.
الإستمرار في توريد المشتقات النفطية الى لبنان سواء من خلال اتفاقات بروتوكولية مع الحكومة اللبنانية او إستجابة لطلبٍ من حزب الله .
تأمين حاجات لبنان من الأغذية والأدوية والمستحضرات الطبية .
إنشاء مترو الأنفاق.
كما تَرَدد أن ايران مستعدة أيضاً للمشاركة في التنقيب عن النفط والغاز في مكامنهما بالمياه الإقليمية اللبنانية.
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لفت وزير الخارجية الإيراني الى ان لبنان يخشى من تفعيل الولايات المتحدة العقوبات الإقتصادية ضده اذا ما تعاون مع ايران إقتصادياً . لكن عبد اللهيان نصحه بأن يقوم لبنان بمطالبة اميركا بإعفائه من احكام “قانون قيصر” المتعلق بعقوبات ضد سوريا كما فعلت مؤخراً عندما أجازت تمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان عبر الأراضي السورية.
الى ذلك ، فإن القوى السياسية المطالبة بالتوجّه شرقاً للتعاون مع الصين وروسيا وايران أبدت ، بلسان نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ، عدم ممانعتها في التعاون مع ايّ دولة او مؤسسة دولية بما فيها صندوق النقد الدولي شريطة عدم المساس بإقتصاد لبنان ومصالحه.
في ضؤ هذه المعطيات والتطورات ، برز ما يمكن تسميته خيار إستثنائي للخروج من أزمة لبنان المستعصية يتداوله مسؤولون وسياسيون وخبراء يستشعرون خطورة الأزمة وضرورة الخروج منها او ، في الأقل، التخفيف من وطأتها بهندسة مخرجٍ قوامه تمكين لبنان من التعامل والتعاون مع اميركا وايران معاً لتسهيل خروجه من أزمته.
يُقدّم هؤلاء حججاً وأدلة لترجيح موافقة الولايات المتحدة وحلفائها المحليين على اعتماد هذا المسار. يقولون إن اميركا تبدو ، بعد خروجها المهين من افغانستان ، جادّة في إنتهاج سياسة جديدة لتموضعها في دول غرب آسيا ، وانها في هذا السياق أقدمت على تعليق احكام “قانون قيصر” لتسهيل نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان عبر سوريا بعدما ادركت انها وسواها من دول الغرب الأطلسي غير قادرة على تقديم حل سريع لمشكلة شح الوقود والطاقة الكهربائية في لبنان. ويقول هؤلاء ايضا إن اميركا وايران تتجهان في مفاوضات فيينا للعودة الى الإتفاق النووي ما يمنح لبنان هامشاً اوسع من حرية الحركة في بحثه عن وسائل ومشاريع للخروج من ازمته.
صحيح ان دون هذا الخيار الإستثنائي عقبات شتى أبرزها تخوّف “إسرائيل” (ومثلها اميركا) من تداعيات إنعكاس تعاون لبنان مع ايران لمصلحة حزب الله وإستقوائه تالياً على سائر اطراف المشهد السياسي كما على الكيان الصهيوني. لكن اميركا ، كما “اسرائيل” ، تدركان انه بإعتماد هذا الخيار الإستثنائي او من دونه ستبقى ايران قادرة على مساعدة لبنان بتزويده مشتقات نفطية بمجرد دعوةٍ من حزب الله ، وقد أشار الى ذلك بلا مواربة وزير خارجيتها عبد اللهيان خلال زيارته للبنان .
أليس الكحل خيراً من العمى؟
*نشرت في صحيفتي “القدس العربي” (لندن) و “البناء” (بيروت).
**مفكر وقانوني.
#د.عصام_نعمان، #القدس_العربي، #حزب_الله، #إيران، #أميركا، #موقع_حرمون.