د.قصي الحسين*
كل شيء مريب في لبنان. كل شيء يدعو إلى الإرتياب، من أي عمل تقوم به الدولة، من أي مشروع تقدم عليه.
لم تعد هناك ثقة بين المواطن والدولة. لم يعد المواطن يثق بالدولة، ولا يسمع كلمتها. ولا يأخذ بتوجيهاتها، حتى ولو كان الأمر منها، يتعلق بإشارة السير.
أصابت الدولة اللبنانيين بلوثة، لم تظهر على غيرهم من الأمم والشعوب: إنها لوثة الإرتياب. إنه جنون الإرتياب، الذي يشبه إلى حد بعيد، جنون البقر. أو جنون الطير. أو جنون النبات.
فقد اللبنانيون ثقتهم بالدولة، منذ زمان بعيد. كانوا يرون بأم أعينهم، كيف يتقاتل رجال الدولة على المناصب، على ما أسموه المغانم: من مال وجاه ونفوذ. وعلى الاستقواء بالخارج على المواطنين في الداخل. على الاستعانة بكل أنسي وجني، من أجل الاستقواء على أهلهم، وعلى أهل بلدهم في الداخل.
زرعت الدولة، برجالها القدماء، وبرجالها الجدد، لوثة الارتياب عند عموم المواطنين. غرزوا في نفوسهم غرزات الجنون وغرزات الإرتياب. زرعوها في نفوس جميع المواطنين.
اللبنانيون يرتابون، مما يفعله أهل الدولة، في بلادهم. من اقتسام خزينة المال العام. ومن التدخل السافر في شؤون الحياة العامة. ومن المحاصصة في التعيينات. ومن التدخل في الإنتخابات. ومن تزوير الوقائع والأحداث. بما يجنون منه من مال. وما يدرّ عليهم ذلك من أرباح.
كان المواطنون اللبنانيون ولا يزالون، يرون ذلك بأمّ عيونهم. ويلمسونه بجسومهم وبأبدانهم. يلمسونه بأيديهم وبأقدامهم بالمحسوس الملموس. وكلما تكاثر عليهم “الشواظ” من أهل الدولة، تعجبوا. ازداد عجبهم مما يرون.
يرتابون كل يوم يمرّ عليهم، بمن يرونهم كباراً في أثوابهم، صغاراً في نفوسهم. وهم يقدمون على الصغائر. حتى تشي صورهم في عيون جميع المواطنين بالنذالة والحقارة. حتى تشي صورة كبيرهم، بالصغير الحقير.
خزعة الإرتياب عند اللبنانيين، لامست موطنها في نفوسهم. صرنا نراهم لا يصدقون ما تراه أعينهم. ولا يصدقون ما تلمسه أيديهم. وأما ما تسمعه آذانهم، فهم يسارعون إليه بالشكوك، شكا يؤدي إلى شك. فينظرون فيهم بإرتياب، ما بعده إرتياب، حتى يلامس عندهم لوثة الجنون. حتى يلامس عندهم حد الجنون.
المواطنون اللبنانيون يسمعون، خطب المسؤولين عن حبهم للبنان وعن تعلقهم به. عن تعلقهم بكل ذرة من ترابه. ثم يرون بأم أعينهم، كيف يطمعون به الطامعين. كيف يتعاونون معهم للسيطرة على لبنان. كيف يتعاونون معهم للسيطرة على إرادة اللبنانيين. فتدخل الريبة إلى نفوسهم، وتجعلهم يتحققون من صغارتم. يتحققون من عمالتهم. يتحققون من غبائهم. فيجنون من شدة اللوثة التي أصابتهم. من شدة الريبة التي ألمت بهم:
يرون أن أية ذرة من تراب الآباء والأجداد، تفوق كل ثروات الطامعين. كل ثروات الأعداء والمعتدين. فيجنون مما يرون.
اللبنانيون يرتابون مما يقوله المسؤولون. يسمعونهم يتحدثون عن النزاهة في التعيينات. وعن النزاهة في الإنتخابات. وعن النزاهة في المعاملات.
يسمعونهم يتغنون بنظافة كفهم. وأن كفهم أبيض من ثوبهم. فلا يقبلون الرشى. ولا يأكلون المال الحرام. ولا يشربون في قلوبهم العجل. ولا يسرقون ولا ينهبون.
اللبنانيون يسمعون ذلك كل يوم، من أفواه المسؤولين، بآذانهم: معازيف يومية هي، لأهل الحكم. وأنهم سوف يسلمون لبنان للأجيال القادمة بأفضل مما تسلموه. فتصيبهم الأراجيف، ويفتك بهم الإرتياب، ويبلغ منهم المقت والحقد والكره، حد اللوثة، حد الجنون.
لا توجد دولة في العالم، جعلت شعبها يرتاب بها، مثلما فعلت الدولة في لبنان.
إتخذت لها أبواباً للتهريب غير الشرعي. في المطار والمرفأ وفي جميع الحدود البحرية والبحرية. اتخذوا أبواباً للمعاملات غير الشرعية. في المالية وفي الجمارك، وفي البلديات، وفي صناديق الجمعيات، للأبناء والنساء والبنات. وكذلك للمحاكمات الصورية.
شرّعت أبواباً لصناديق الهدر والرشوة. وشرّعت أبواباً للمناقصات الصورية. شرعت أبواباً لتهريب العملاء. وأبواباً لزراعة المخدرات. وأبواباً لكل أنواع السرقات.
دولة لبنان أبطلت عمل المجالس كلها. أبطلت عمل المحاكم. جعلتها صورية، تحت إبط الرؤساء والزعماء: مجلس الخدمة المدنية. مجلس الجامعة اللبنانية. المجلس الدستوري. مجلس الإنماء والإعمار. مجلس شورى الدولة. وكثيرة هي المجالس التي نسيتها. وآخرها مجالس الأحوال الشخصية.
حكام لبنان، اعتادوا على جعل لكل شيء، أكثر من باب: جعلوا بابا للشرعية. وجعلوا بمحاذاته بابا لتهريب وتزوير الشرعية. فكيف لا يرتاب بها اللبنانيون. فكيف لا تصيبهم اللوثة. لوثة الجنون. كيف لا يصابون بجنون الإرتياب.
الدولة في لبنان، شجرة مسوّسة: من جذورها حتى أعلى فرع منها. حتى أعلى طرد فيها. أصيبت باكراً بداء التسوس. أصيبت مبكراً بداء العفن والاهتراء. شلت يمينها. شلت يسراها. شلت رقبتها، شلت كل أعضائها. ضربها الداء العضال، وصارت إلى التساقط. حتى انطفأت فيها الكهرباء.
فكيف يقوم هيكل. كيف ينهض بدن. كيف تنهض وزارة بلا كهرباء. كل يوم يزداد على الدولة في لبنان الطاعون. يزداد فيها المرض الخبيث. فيصير الورم جزءاً من هيكلها. ترى وزراءها منتفخين من غير علة ترى زعماءها، متورّمين، بلا عضة بعوضة. بلا عقص دبور، بلا مس. ولا ما يحزنون.
الدولة في هذه الأيام، رمة في الأرض. تحتاج إلى أطباء عقلاء، لا إلى مجانين ولا إلى مهووسين.
الدولة في لبنان، لا تحتاج إلى دعي، ولا إلى طامع بلحمها:
خسيس وراءه رجل خسيس.
وتسألون من أين يأتي جنون الإرتياب للناس في لبنان. من اين تأتيهم اللوثة. من أين يأتيهم، كل هذا الجنون: جنون الإرتياب.
يأتيهم يا سادة كل هذا، فقط، من كل هذا! ولا شفاء، إلا بإستئصال الورم الخبيث!
*أستاذ في الجامعة اللبنانية.
#موقع_حرمون، #جنون_الارتياب، #د.قصي_الحسين، #الورم_الخبيث، #خسيس، #الجامعة_اللبنانية.