عبد الباري عطوان
اذا كانت صورة الطفلة الفيتنامية العارية الهاربة هلعا ورعبا من قنابل النابالم الامريكية الحارقة التي كانت تلقيها القاذفات الامريكية على القرى والبلدات قبل خمسين عاما تراجع تأثيرها بسبب التقادم، واختفاء أجيال ومجيء أخرى، ولم تعد عنوانا قويا للإجرام الأمريكي، فان صورة المئات من العملاء الأفغان وهم يلهثون خلف طائرة شحن أمريكية عسكرية ويتعلقون بأجنحتها وعجلاتها، ويصبح مصير بعضهم الموت ستظل عنوانا بارزا ولعقود كدليل على الخذلان الأمريكي، والهزيمة الكبرى، وانتهاء دور أمريكا كشرطي للعالم، وتآكل سمعتها وهيبتها، وبداية تحللها كقوة عظمى.
التجربة الأفغانية ستحتل مكانة بارزة في كتب التاريخ، ومناهج العلوم السياسية التي ستدرس في الجامعات والمعاهد الاكاديمية كعنوان للفشل والغطرسة، وسوء التقدير، واحتقار الخصوم وثقافتهم، وارثهم العقائدي والحضاري والتاريخي، ومحاولة فرض ثقافة هجينة أخرى بقوة الاحتلال، وأدوات غسل العقول الدعائية المضللة لتسويق قيم وأسلوب حياة يجسد النقيض الفكري والديني، وأسلوب حياة وسلوك مختلف كليا لا يمكن ان ينمو في بيئة طاردة.
***
انهيار حكومة أفغانستان المفروضة أمريكيا، وذوبان جيشها الذي يزيد تعداده عن 300 الف جندي دون اطلاق رصاصة واحدة، وهرب رئيسها بما تيسر من الدولارات الى الامارات، المأوى الجديد الحاضن للسياسيين الهاربين من بلدانهم في الشرق الأوسط والعالم، كلها عناوين تلخص فشل “نموذج” الحروب والتدخلات العسكرية الامريكية في العالم.
أمريكا انفقت ترليوني دولار في أفغانستان على مدى عشرين عاما، وخسرت 2500 جندي، ومع ذلك اختفى او بدأ في الاختفاء كل اثر لإرثها الاستعماري، وعادت أفغانستان الى المربع الأول، الى امارة طالبان الإسلامية الأولى، ولكن بطبعة ثانية جديدة مختلفة، ممهورة بوسام جديد عنوانه هزيمة الإمبراطورية العظمى الثالثة المحتلة والغازية للأراضي الأفغانية في التاريخ الحديث.
الغزو الأمريكي ربما نجح في تفكيك تنظيم “القاعدة” واجتثاثه واغتيال زعيمه، ولكنه نجح في توحيد 40 مليون أفغاني تقريبا على كراهية أمريكا، والغرب عموما، وأعاد تتويج حركة طالبان التي باتت الأكثر قوة وخبرة، وهيبة مجددا زعيمة لأفغانستان، فالترليونات التي انفقتها الإدارات الامريكية ذهبت الى تجار السلاح الأمريكيين، والشركات الأمنية، وجيوب سماسرة الفساد والافغانيين منهم تحديدا، او اسيادهم الأمريكيين، وليس الى بناء الجامعات، او المدارس، او المستشفيات، او طرق، او مصانع.
الغباء الأمريكي يجسد في ابشع صوره بإختصار إنجازات الاحتلال في “تحرير” المرأة الأفغانية وتبرجها، ونزع الشادور وحلق اللحى، وليس في استثمار تحقق نهضة اقتصادية تخرج الشعب الافغاني من جوعه وفقره، وتوفر له فرص العمل والحياة الكريمة وبما يعزز بقاءه في وطنه، وتصليب جذوره في تربته، ورفض الهجرة تماما مثلما فعلت أمريكا في اليابان او كوريا الشمالية، والتفسير الوحيد لذلك ان الشعب الافغاني ذنبه انه شعب مسلم، مثله مثل نظرائه العراقي، والسوري، والليبي، واليمني، واللبناني، ولا ننسى الفلسطيني بطبيعة الحال.
لن نتحدث عن مستقبل أفغانستان، وتطورات الأوضاع فيها في الأشهر والسنوات القادمة، ليس لأننا لا نؤمن بالتنجيم وقراءة الطالع، وانما لان هناك ضبابا كثيفا في الأجواء ما زال يحجب الكثير من الحقائق، ولهذا لن نتسرع مثل البعض الذي ينطلق في احكامه من منطلقات طائفية، او عرقية، او ارتباطات خارجية، ولكن هذا لا يعني عدم الاعتراف بشرعية مخاوفه من الدور الطالباني القادم في المنطقة والمتفق عليه مع أمريكا حسب مزاعم رائجة هذه الأيام.
هذه المخاوف تنحصر حتى الآن، في النقاط التالية:
أولا: ان تتحول “طالبان السنية” المنتصرة الى أداة أمريكية لتشديد الحصار على ايران، وربما الى قاعدة انطلاق لعمليات تخريب في العمق الإيراني، واشعال فتيل الفتنة الطائفية بإستهداف اقلية الهزارة الشيعية في هيرات ومزار شريف في الشمال الافغاني المحاذي لايران.
ثانيا: توظيف أمريكا للحركة للانخراط في حرب “جهادية” ضد الصين تحت عنوان نصرة الأقلية الإسلامية المضطهدة، أي الايغور، في تركستان الشرقية، وبما يحول المنطقة الحدودية الافغانية الصينية الوعرة الى نقطة انطلاق لحركة تحرير شرق تركستان الاغورية “الجهادية” ضد الصين، على غرار تجنيد المجاهدين المسلمين لهزيمة السوفييت قبل خمسين عاما بدعم مالي وسياسي سعودي خليجي.
ثالثا: زعزعة الاستقرار في الجمهوريات السوفييتية الإسلامية في الشمال، التي ما زالت حائط الصد الروسي الأقوى ضد الإسلام الجهادي والجماعات الإسلامية المتطرفة للأقليات الاسلامية الروسية، ونحن نتحدث هنا عن طاجيكستان، أوزبكستان، وتركمنستان، قرغيرزستان وغيرها المحاذية لأفغانستان، وهذا ما يفسر قلق الرئيس بوتين، واجراء جيشه مناورات عسكرية مع الجيش الطاجيكي قبل بضعة أسابيع تحسبا لاي مفاجآت أفغانية غير سارة لامبراطوريته.
رابعا: زيادة انتاج المخدرات مثل الكوكايين والهرويين وتهريبها الى دول الخليج وأوروبا باعتبارها مصدر دخل مهم لتمويل الدولة الأفغانية الجديدة.
من السابق لأوانه التكهن بسياسة طالبان حول كيفية التعاطي مع هذه المخاوف، ولكن اذا حكمنا على الأمور من ظواهرها، على اعتبار ان الله وحده اعلم بالبواطن، يمكن القول ان حركة طالبان في طبعتها الجديدة تعي جيدا هذه المخاوف، وتبذل جهودا لتبديدها، او معظمها، مع الاخذ في الاعتبار ان ايران وروسيا كانت الداعم الرئيسي لحركة طالبان ومقاومتها للاحتلال الأمريكي، وهذا الدعم يرتكز على امدادات بالسلاح والذخائر والمعلومات الاستخبارية، ولا نكشف سرا عندما نقول ان اللواء إسماعيل قاآتي رئيس الحرس الثوري الحالي كان مقيما في أفغانستان سرا وتمسك بملف الدعم الإيراني لحركة طالبان قبل ان يصبح نائبا ومن ثم رئيسا للحرس الثوري خلفا للراحل قاسم سليماني، بالإضافة الى ذلك ارسال طالبان وفودا الى موسكو وطهران وبكين لطمأنة حكوماتها، والتأكيد على انها لن تحول البلاد الى قاعدة لزعزعة استقرارها تحت العلم الأمريكي، اما فيما يتعلق بالمخدرات، فان حكومة طالبان الأولى خفضت انتاجها بأكثر من 80 بالمئة باعتراف الأمم المتحدة.
***
الخلاصة، وباختصار شديد، أمريكا لم تعد قادرة على تغيير الأنظمة وهزيمة خصومها عسكريا، وكل تجاربها في هذا الميدان فشلت وجاء البديل فوضى ودول فاشلة، وخسرت في الوقت نفسه ثقة حلفائها، او معظمهم، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، وثبت بالدليل القاطع هشاشة معظم أجهزة مخابراتها، وضحالة دراسات معظم مراكز ابحاثها، والعاملين فيها، مثلما خسرت أيضا هيبتها وسمعتها وارثها، كقوة عظمى لمصلحة قوى وتحالفات صاعدة بزعامة الصين وروسيا، إقليمية ودولية.
لا نجادل مطلقا بأن الأهم الذي ربما يترتب على الانتصار الطالباني على أمريكا، هو احتمال إعادة احياء الإسلام السياسي الطائفي السني بعد النكسات والهزائم التي تعرض لها في السنوات العشرين الماضية، والمأمول ان لا يتم السماح لأمريكا باستغلال هذا التحول لمصلحتها مثلما فعلت في الماضي، وتوظيفه ضد خصومها، وخاصة التحالف الروسي الصيني الصاعد، الامر الذي يتطلب وعيا مدروسا من قبل هذا التحالف، ومن حركة طالبان نفسها تطبيقا للحديث ” لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين “.. والله اعلم.
رأي اليوم