عبد الباري عطوان
مسلسل الفضائح الذي شاهدنا حلقاته على المسرح الافغاني طوال الأيام القليلة الماضية، واكتمل بالخطاب البائس الذي القاه جو بادين، لا يؤشر الى صعود مفاجئ للإسلام السياسي مجددا، وعودة الامارة الإسلامية الطالبانية الثانية، وانما ايضا الى السقوط النهائي بالضربة القاضية لنظرية أمريكية غربية سادت طوال الثلاثين عاما الماضية، وجوهرها استخدام القوة العسكرية لإطاحة نظام “ديكتاتوري” واستبداله بنظام ديمقراطي يرتكز على أسس الحضارة الغربية.
الاعلام الغربي، والامريكي منه بالذات، سقط أيضا في اختبار افغانستان عندما ركز بالدرجة الأولى على قضايا ثنائية لا نقلل من أهميتها، مثل القلق على أوضاع المرأة بعد عودة حكم الطالبان الوشيكة، وابتعد عن القضية الأساسية، وهي بدء العد التنازلي لانهيار الإمبراطورية الامريكية، والتآكل السريع لهيبتها، بما يذكرنا بمصير جميع الامبراطوريات وآخرها السوفييتية والبريطانية بعد تكبدها هزائم مماثلة، وأين؟ في أفغانستان، والشرق الأوسط عموما، ولو كانت أمريكا مهتمة بمستقبل الشعب الافغاني وليس المرأة فقط، لما هربت بطريقة مرتبكة من أفغانستان، وكل القطط السمان من عملائها، وتركت هذا الشعب الذي لم تحرص عليه مطلقا ان يواجه مصيره بنفسه.
***
تابعنا خطاب الرئيس جو بايدن امس الذي استغرق 20 دقيقة، وكان مضمونه لا يقل فضائحية عن ما حدث في مطار كابول، فالرجل المسؤول الأول عن مهازل الأيام الأخيرة من حكم بلاده المباشر لأفغانستان عبر “الوكلاء”، تنصل من المسؤولية، ومارس كل أنواع الكذب والتضليل، مفترضا ان المستمعين داخل أمريكا وخارجها في قمة الغباء وأصحاب ذاكرة ضعيفة.
الكذبة الأولى: عندما قال ان مهمة القوات الامريكية في أفغانستان لم يكن بناء دولة، وهذا الكلام قمة الكذب والتضليل، فعودة سريعة الى تصريحات سلفه جورج دبليو بوش الذي اطلق رصاصة الحرب لغزو أفغانستان في تشرين اول (أكتوبر) عام 2001، ومن شاهد تغطية آلاف الصحافيين وعدسات التلفزة لهذا “الانتصار” الكبير واظهار النساء الافغانيات في حينها دون حجاب، والرجال دون لحى، والوعود الحازمة بإقامة الديمقراطية الليبرالية من تابع تلك اللحظات يضع اصبعه في عين بايدن مكذبا؟ ونحن مع حصول المرأة الأفغانية على كل الحريات والمساواة والتعليم حتى لا يسئ البعض فهمنا.
الكذبة الثانية: عندما قال بايدن “لقد اعطيناهم كل فرصة لتقرير مصيرهم ولا نستطيع اعطائهم “الإرادة” للقتال من اجل مستقبلهم، ولا يمكن للجنود الامريكان ان يموتوا في حرب لا ترغب القوات الأفغانية ان تخوضها”، وهذا افتراء غير مسبوق فالجيش الافغاني انهار في “ليلة ما فيها قمر” لان أمريكا، ومثلما حدث في عدة دول مثل العراق وليبيا وفيتنام، لا تريد تأسيس وبناء جيوشا وطنية قوية، وانما جيوشا عميلة ينخرها الفساد، فما هي العقيدة القتالية للجيش الافغاني حماية احتلال بلاده وتغيير هويتها القومية والدينية؟
الكذبة الثالثة: كيف يقول بايدن انه لا يستطيع إعطاء الأفغان العملاء الإرادة القتالية من اجل مستقبلهم، وينسى او يتناسى في الوقت نفسه ان هذه الإرادة موجودة وبقوة في الطرف الآخر (طالبان) وهي الإرادة التي هزمت أمريكا، الإرادة لا تُمنح، وخاصة اذا جاءت من قوة احتلال.
الكذبة الرابعة: تحميل الرئيس الافغاني اشرف عبد الغني مسؤولية الانهيار السريع لهروبه واسرته من البلاد، وهذا ينطوي على بعض الصحة، ولكن الجيش الأمريكي كان اول الهاربين، وبقرار بايدن نفسه، ثم أليست امريكا التي اختارت عبد الغني، وقبله كرزاي لقيادة البلاد، وزورت الانتخابات لفوزهما، وهما اللذان يحملان جنسيتها وعاشا في الولايات المتحدة اكثر ما عاشا في أفغانستان.
الكذبة الخامسة: على مدى عشرين عاما من الاحتلال، لم تحرص الادارات الامريكية على إقامة الحكم الرشيد في أفغانستان ولم تكن مصلحة الشعب الافغاني من أولويات احتلالها، فالفساد كان العنوان الأبرز لهذه الحقبة، والجيش الافغاني الذي انفقت امريكا على تسليحه وتدريبه اكثر من مئة مليار دولار كان “وهميا” على غرار نظيره العراقي، وعشرات الآلاف من الجنود اشباحا مسجلين على قوائمه من اجل حصول القادة على رواتبهم، ودَفع الجوع وتأخر الرواتب بالجنود “الحقيقيين” الى الانشقاق والانضمام الى طالبان، او بيع بنادقهم في السوق السوداء لإطعام أطفالهم.
***
ما حدث في مطار كابول وصمة عار في تاريخ الغرب وامريكا تحديدا، فأين مراكز الأبحاث الغربية العملاقة، وأين أجهزة الاستخبارات الامريكية التي يزيد تعدادها عن 17 جهازا تبلغ ميزانياتها السنوية مئات المليارات، ولماذا لم تتوقع هذا الانهيار مبكرا وتوصي بإتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب حدوثه؟
الامر لا يحتاج الى الكثير من الذكاء، فما حدث في مطار سايغون قبل 36 عاما، يعلم الحمار، ولكن الغباء الأمريكي فاق كل الحدود، واعمى بصر الكثيرين في الوطن العربي وبعض دول العالم الثالث، وشكرا لطالبان التي فضحته.
انتصار طالبان اكبر كثيرا من انتصار الفيت كونغ في فيتنام لسبب بسيط لان أمريكا كانت تحارب الامبراطورية السوفييتية العظمى، اما في أفغانستان فكانت تحارب حركة إسلامية لا تملك الا الإرادة والكرامة والقتال حتى الشهادة لتحرير بلادها من الغازي، وكان لها ما ارادت، وعلى حلفاء أمريكا العرب وفي فلسطين المحتلة (الإسرائيليون) ان يتحسسوا رؤوسهم.. والله اعلم.
رأي اليوم