سامي سماحة*
أغرب ما فينا أننا نستغرب حصول ما كنا نتوقعه ، وكأننا لم نكن نعتقد صحة أقوالنا ، ومن هنا تبدأ قصة تعاستنا . نحن في الحقيقة قسمين قسم له اسم ولقب “جحا ” وقسم له إسم ولقب : خربت عمرت طلعت نزلت حايد عن ضهري بسيطة .
يقال : أزعجت أصوات الأولاد جحا فأراد إبعادهم عنه فقال لهم في الشارع الثاني رجل يعطي الأولاد مالا فذهب فركض الجميع الى هناك ولم يبق في الحي ولد واحد ،فقلق جحا واحتار وراودته فكرة وجود رجل حقيقي يوزّع المال ، فترك منزله وركض الى الشارع الثاني فرأى الأولاد يلعبون ويمرحون فعاد خائبا .
كم كذبة كذبناها ،وصدّقناها، وركضنا خلف أحداثها ،ولم نجن سوى الخيبة ،
في عقلنا الباطني نعرف أنها ليست حقيقة والمتوقع كارثي ، ولأننا نخاف الكارثة نتحدث عنها ، ولا نواجهها ،ونذهب الى الكذبة .
وعندما تقع الكارثة نستذكر الماضي لنؤكد أننا كنا نتوقع حصولها ، فنعود الى نقطة أننا كنا نعلم ، ولكننا لم نكن نصدّق أن ما نعلمه سيحصل .
ولم نكن نحن وحدنا عامة الناس الذين يعلمون بل كان أهل الحل والربط يعلمون ، ألم يقل كبير القوم : لبنان ذاهب الى جهنم إذا لم تُشّكل حكومة .
لقد اتفق عامة الناس مع أولي أمرهم على المتوقع الكارثي ،ولكن بفارق بسيط، أن العامة كانت تشم الرائحة، وتهرب من تحديد مصدرها ،وتخاف مواجهتها ، وتطمئّن الى وجودها في أحضان الطوائف والمذاهب ، وسلّمت أمرها الى واحد أحد يكون شفيعها ، وارتضت أن تلعب دور الأولاد الذين كذب عليهم جحا .أما أولي الأمر، فقد علموا بالمتوقع الكارثي ، وعلموا بأسبابه وأماكن وجوده ، وعلموا أيضا أن المتوقع الكارثي سيأخذ لبنان الى جهنم ، لكنهم أمعنوا في فسادهم وزادوا من سرقاتهم ،فسرّعوا في حصول المتوقع الكارثي ، وحتى ونحن في الكارثة لم يحيدوا قيد شعرة عن ممارسة هوايتهم في السرقة .
الي ما هو من ضهرك كل ما جّن افرحلوا
تعددت في لبنان ضهور الناس ولكل ضهر خصائصه وتتلاقى الضهور في ملاعب تبادل المصالح وتتقاتل في ميادين اكتساب الأرباح ،تتحالف ولا تتآلف ، أعمتتها مكاسب الحاضر ، فغاب عن إدراكها مواجهة المتوقع . أعماها الربح اليومي ، فغرقت في أمواج عدّ الأموال وترتيب خزنات الصكوك الخضراء .تشرب من حنفيات الدولة ولا ترتوي، تأكل من معاجن السلطة ولا تشبع ،وبين المعاجن والحنفيات كانت تتحدث عن المتوقع الكارثي ، وكأنها ليست المسؤولة وليست من يدير البلد .
تعاطت مع المُتوقع الكارثي على أنه قدر إلهي ، لذلك أفلحت في الدعاء الى الله أن تكون الفرقة الناجية ، وليس مهم أن يذهب الى جهنم الشركاء ، فهم يتعاطون بإدارة البلد على قاعدة الشراكة وليس على قاعدة الإدارة الواحدة .
خربت عمرت طلعت نزلت حايد عن ضهري بسيطة .
جملة شهيرة أدخلت الأستاذ نبيه بري في سوق البيع والشراء ، قالها في بدايةعمله الحكومي وصارت شعارا : من “حضر السوق باع واشترى ”
تتحكم في السوق نزعة الربح غير المحدود ، وفي النزاع التجاري تتحكم الشطارة والنصب وتغيب مصلحة المستهلك والناس .
الحكومات في لبنان أسواق تجارية، ومن يُجيد فنّ النصب والشطارة في إخراج أساليب النصب ينال المكاسب الكُبرى .
يقوم منطق السوق على النزعة الفردية وعلى المضاربة بين الأطراف لغاية المحاصرة والإضعاف .تحكم السوق فكرة الربح الفردي ، لا حساب للمصلحة الوطنية ، وتاجر السوق لا يميّز بين الدولة والفرد ولو كان الرأس الأول أوو الثاني أو الثالث في الدولة . ودليلنا المجالس التي أنشأها رجال الدولة تحت عناوين مصالح الطوائف وتحت سيطرة ممثلي الطوائف والمذاهب في الدولة ، وإطلاق الرئيس الحريري فكرة الاستدانه من الناس بفوائد عالية لا يقاربها إنتاج أي مصلحة وكان هو الدائن الأكبر للدولة . ويتلاقى مع الأستاذ نبيه والشيخ رفيق الحريري الرئيس الياس الهراوي الذي قال عن الدولة بقرة حلوب .
أصبح البلد يشبه خزّان نهر، يجري في سهل واسع، تفرّعت منه عدة سواقي ، ولكل ساقية غاية وهدف ، ومالك الساقية لا يهتم لواقع جزّان الماء ، وأصبحت مياه السواقي تفوف حجم ماء الخزّان بعدة مرّات وهذا الواقع لم يدفع أصحاب السواقي الى التدوال في مصير النهر ، فوقعت الكارثة .
المفارقة الكبيرة ان جميعهم تحدثوا عن المتوقع الكارثي وجميعهم قالوا خربت عمرت طلعت نزلت حايد عن ضهري بسيطة .المهم أنهم بخير وأموالهم تزداد وهي بخير ، وكبار الطائفة بخير . واعتقدوا أنهم لا يتأثرون بالمتوقع الكارثي فأموالهم تحميهم من كل شر مستطير .
السؤال الكبير :
لماذا لم يقتنع الناس بحديث المسؤولين عن الكارثة الآتية ؟
لماذا استمر الناس يعيشون على وهم ما قاله حاكم مصرف لبنان ووزير المالية ولم يصدّقوا أن لبنان ذاهب الى الخراب ؟
المسؤول الأول عن الأجابة على هذين السؤالين الأحزاب الوطنية والقومية .
كيف تعاطت الأحزاب مع المتوقع الكارثي
تحدثت قيادات الأحزاب عن الأفق المسدود للدولة اللبنانية ، وتحدثت أيضا عن ضرورة إصلاح الدولة ، لذلك شكّلت حركة وطنية وكتبت برنامجا إصلاحيا مرحليا وتبين فيما بعد أن رئيس الحركة السيد كمال جنبلاط يمثّل مصالح الطائفة أكثر من تمثيله لمصالح الكيان، لذلك كان من أوائل المنخرطين في تحقيق مشروع المتوقع الكارثي .
أما الأحزاب الوطنية والقومية التي تعارض وجود الكيان وتعارض حياده ، وتطالب بإنتمائه الى بيئته القومية لأن هذا الانتماء هو المخرج الوحيد لإنقاذ البلد من المتوقع الكارثي لم تستطع إنشاء تفكير عملي يواجه المخاطر وينقذ البلد .
تجاهلت الأحزاب الاهتمام بمسألتين .
المسألة الأولى ،الاهتمام بدراسة الوضع السياسي والاقتصادي للبنان وكشف حيثيات المتوقع الكارثي
المسألة الثانية ،صياغة خطاب شعبي بلغة الناس ويقنعهم بكارثية المتوقع الآتي .
لذلك تساوت مسؤولية الأحزاب مع مسؤولية رجال السلطة وخاصة أن بعض الأحزاب من ركائز الدولة .
نتوقع الأسوأ ونقبل بسوء الحال ولا نحرّك قشة من مكانها .
نتوقع الأسوأ ونرتاح الى مقولة: عش يومك ولا تفكر بالغد فللغد رجاله ،فلم ننجح في تربية رجال المستقبل ، فحلّ علينا المتوقع الكارثي ونحن ما زلنا نصرخ :للغد رجاله وللآتي مشاريعه .
على التشكيلات الحزبية الوطنية من قومية وماركسية أن تعترف أنها أخفقت وخسرت ،فمنها من تعب من النضال وهو يستريح الآن بكنف زعامات طائفته ، ومنهم من أخذته الألقاب فأصبح كطاووس ولا يريد منافسا له فاستراح على كرسي وجنبه مجموعة من المصفقين .
لنتجنب المتوقع الكارثي علينا إعادة تشكيل الأحزاب الوطنية القومية بما يتناسب مع عقائدها وغاياتها ومبادئها وليس بما يتناسب مع مصالح قياداتها ،علينا أن نخرج من فكرة التصحيح الى فكرة الانشاء عبر إعادة البناء واستكمال التأسيس .
موقع حرمون