د.قصي الحسين*
متطلبات مستحيلة، هي التي يحتاجها اللبنانيون اليوم. صارت عزيزة الوجود في لبنان.
فجأة نام اللبنانيون وقاموا، فوجدوا أنهم لا يستطيعون أن يقدموا “عروس الزعتر” لصغارهم. لا يستطيعون أن يجدوا حليباً لأطفالهم. صارت كعكة الصغار والكبار، في فم الذؤبان.
فجأة نام اللبنانيون وقاموا، فوجدوا أنهم صاروا نباتيين. صاروا محرومين حتى من بيضة الدجاجة.
ما عادوا يزورون دكاكين القصابين، ماعادوا يرون شاة معلقة ولا جزوراً معلقاً، ولا “لحماً على وضم”. صاروا يشمون رائحة الشواء من بعيد. صار للمذاق ذاكرة. صاروا يعرفون طعمه من الذاكرة.
فجأة نام اللبنانيون وقاموا، فوجدوا أنفسهم، لا يستطيعون مغادرة عتباتهم. صاروا لا يستطعون مغادرة داراتهم. صاروا محاصَرين.
لا يستطيعون أن يخرجوا من الحي. لا يستطيعون زيارة أهاليهم في الأحياء البعيدة. لا يستطيعون تقبيل أيادي آبائهم وأمهاتهم، في القرى المجاورة.
يقفون صباح مساء في الطوابير، وحين يصلون إلى محطات الوقود، يجدونها قد رفعت خراطيمها، تستسلم، بدل أن تسلّم.
صارت تعبئة البنزين تحيات الصباح. يستفتحون به نهارتهم مع الجيران، يسألون عن محطة فتحت أبوابها للتعبئة، بدل السؤال عن صحة الأهل والعائلة والأولاد.
يهرولون إليها مسرعين، قبل النفاد من المازوت والغاز والبنزين.
لم يعُد بمقدور الأهل إرسال أولادهم إلى رياض الأطفال، ولا إلى المدارس.
لم يعد بمقدور العامل أن يذهب إلى عمله، لارتفاع أجرة النقل. صارت الوفرة، أن يظل حلس بيته، حلس داره. صارت الوفرة، أن يجلس حلس محبسيه. أن يكون “سجين المحبسين”.
نامت عجائز لبنان، على آخر جرعة، وحين نهضت في اليوم التالي، لم تجد الجرعة الثانية. صار العثور على عبوات الدواء، ليس من المتطلبات المستحيلة، وإنما من “سابع المستحيلات”.
لا يطلب الأهل لأهلهم، الأوكسجين، ولا سرير المريض. ولا الفحوصات الدورية. ولا حبات الإسبرين. ولا حبة دواء. فهذا كله من سابع المستحيلات.
مأساة اللبنانيين، أن كل شيء يحتاجونه في يومهم، صار معجزا. صار مطلبا مستحيلا. حتى الوصول إلى قجة العمر. إلى دفتر التوفير. إلى تقسيط مروحة للصيف، أو مدفأة للشتاء.
مأساة اللبنانيين، أنهم لا يستطيعون الوصول إلى إيداعاتهم. صارت إيداعاتهم رهينة البنوك والمصرف المركزي.
صارت محابس العرسان، وأساور العرائس، من التقاليد البائنة. صارت محلات الصاغة لمن يحمل فقط “الفريش ماني”.
لم يعد للبنانيين حظ في الكهرباء. صارت من متع العصر الحديث، لا من العصر الحجري، الذي حجرهم، وحاصرهم، وقطع عنهم التيار.
لم يعد للبنانيين حظ من الماء. صارت الفواتير تأتي إليهم ناشفة. صارت قطرات الماء الصالحة للشرب، بـ “السنسات”، كأنها في الصحارى، أو في المحيطات، أو في القطبين المتجمّدين من عالم الأرض.
حكومة لبنان، تطلب من الناس القيام بأمور معينة، كانت أحياناً مستحيلة التنفيذ. فلا يمكن لهم النوم، في ظل العتمة والهجير. لا يمكن لهم، الاستحمام في البحر. ولا في النهر. ولا الخروج إلى شجرة التين، عند الخلاء.
كيف تريد منهم حكومتهم، الذهاب إلى الإدارات والوزارات والبلديات والمصالح، ولا موتور فيها ولا ورق ولا كهرباء ولا تبريد.
متطلبات بدنية تعجيزية، تطلبها الحكومة من الأطفال، أن يذهبوا إلى مدارسهم وجامعاتهم وإمتحاناتهم هذا الصيف، مشياً على الأقدام.
تقول إبنة لأمها، ومن ورائها إلى حكومتها: لا أستطيع أن أذهب إلى الامتحان. لا أستطيع أن أقوم بهذه المهمة. فهي من المسحيلات. فهي إذاً مستحيلة: إني خائفة من أن أكسر رجلي في الطريق.
وتقول إبنة أخرى لأبيها: أمضيت طوال الوقت السابق في عزلة. داخل الحجرة الصغيرة، مثل الفقاعة، وأنا أواجه المعاناة والقلق والألم والخوف، في ظل انقطاع الماء والكهرباء عنا. فهل يستطيع مثلي: لا يحسن له اجتياز الصعوبات، أن يعبر إلى الفوز.
أمس، أحصى رئيس الحكومة، مفقودات لبنان. مفقودات شعب لبنان. حاجاته. متطلباته. عددها بإسهاب أمام السفراء الأجانب. ونسي أن يقول لهم أمرا واحدا: من تأخر عن فرصته! من أضاعها!
كل شيء صار في لبنان، من المتطلبات المستحيلة، حتى الشعور بالحياء. حتى الشعور بالخجل. حتى الشعور بالكرامة الوطنية!
*أستاذ في الجامعة اللبنانية.
#د.قصي_الحسين، #الجامعة_اللبنانية، #رئيس_الحكومة، #السرايا_الحكومي، #عروس_الزعتر، #محطة_الوقود، #حرمون، #موقع_حرمون، #وكالة_حرمون، #هاني_سليمان_الحلبي