د. قصي الحسين*
لا توجد بلاد في العالم، غريقة بالوحل، مغراقة به، مثل هذا البلد المنكود الحظ، الذي اسمه لبنان.
منذ أول التاريخ، كانت تتجمع فيه وحول العالم أجمع. كانت السيول الجارفة، أول ما تتجه إليه، لأنه “مبرك الإبل”، لأنه “مهجع” الجيوش.
كانت الأمم القديمة، أول ما تسيل إليه، حين تباشر زحوفها وتمدداتها. تأخذه مستراحاً لها، قبل أن تأخذ طريقها، إلى حيث تريد، شرقاً وغرباً.
كانت الإمبراطوريات القديمة والإمبراطوريات الحديثة، لم لا، أول ما تفكر بالنزول في لبنان، أقله، لقضاء بعض أشهر الصيف فيه.
كان الأنبياء والرسل، يبتعثون الدعاة والمبشّرين، إلى لبنان، لبناء الصوامع والمعابد والهياكل والبِيَع والإقامة في ربوعه للتأمل والعبادة. واتخاذ الخلوات والمنارات والمآذن، لنشر الدعوات، والسلوك في سبل العبادات.
كانت أزاهير الديانات القديمة كلها، تنبت على هذه الأرض الخصبة الموحلة. تنبت على تلك الدمن.
كانت الدول والممالك القديمة، لا تحقق طموحاتها، ما لم تنبسط شعوبها، في شعاب لبنان. ما لم تنتشر جيوشها على أرض لبنان.
لبنان الصخور والجبال. لبنان الثلج والسواقي والأنهار والوديان. ترسبت فيه كل الرسوبيات، التي حفت به، من كل الجهات. فصارت مع الزمن تربة رسوبية.
كانت مواسم الشتاء، كما مواسم الخريف، تدفع إليه، بمدافع الماء. فتحيل كل الغبار العالق بجلابيب الأمم إلى وحول وأطيان.
كانت تربة لبنان، كل عام، يزيدها الطين بلا. فتتكدس الوحول فوق بعضها، وتصير طبقات طبقات.
الوحول اللبنانية، سرعان ما صارت ذات شأن عظيم. تغرق فيها جميع السياسات الحاجّة إليها، من الشرق، كما من الغرب. سرعان ما تحولها، إلى طبقة لزجة، فتصير بلا طعم ولا لون.
تذوب السياسات كلها، الداخلية منها والخارجية، في الوحول اللبنانية، فتنمحي عنها طوابعها الأصلية التي عرفت لها في بلاد المنشأ. تصير غريقة الوحول اللبنانية، فتذوب هويتها، وتضيع رائحتها، بعدما كانت تضوع، ولا يعود لها أثرها على طينة لبنان الغارقة في الوحول.
ها هي جميع المبادرات، تغرق في الوحل اللبناني. ها هي جميع المؤتمرات، تغرق في الوحل اللبناني. ها هي قيادات محلية وعالمية، تغرق في الوحل اللبناني.
ها هم الزعماء العالميون والمحليون، تغرقهم الوحول اللبنانية، فيتعثرون في مشيتهم، ولا يعرفون، بعد أن يمشوا في شعاب لبنان، ميلا أو ميلين، أين هم، ولا ما يريدون.
غرقوا في الوحول اللبنانية، وغيبتهم حتى حدود الأخمصين.
منجاة لبنان، ليس في إرسال المبعوثين إليه. ليس في كثرة الدعاء له، أو الدعاء عليه.
منجاة لبنان، ليس في طلب المبادرات، ولا في لجان التحكيم، ولا في التكليف ولا في التأليف، ولا “التكتيف”.
منجاة لبنان، في غسل جميع الطبقات الموحلة عن قدميه.
أرض موحلة، هي أرض لبنان، منذ أول الزمان، فلنبادر لغسل الوحل عنه.
غسل العقول الموحلة. غسل الأيادي الموحلة. فلنبادر، لإزالة الوحل، عن دستوره، وعن قوانينه، وعن ميثاقه، وعن الطائف والدوحة. فلنبادر لغسل أيدينا من الوحل القديم. ومن وحل القدماء. ومن جميع الوحول التي أغرقتنا، وغرقنا فيها.
فلنبادر لإزالة طبقات الوحل التي زحفت عليه، بعد الحروب التي شهدتنا وشهدناها. وبعد الحروب التي أسمعتنا، وسمعناها.
لبنان أحوج أن يبادروا إليه، لغسل الوحول عن أكفاننا.
لبنان غريق الوحول، فمن يغسل له ثوبه، إذا لم يغتسل أبناؤه، أنفسهم بأنفسهم، فوق هذه الأرض الموحلة.
*أستاذ في الجامعة اللبنانيّة.
#د.قصي_الحسين، #الجامعة_اللبنانية، #غريق_الوحول، #الأرض_الموحلة، #الدستور، #القوانين، #الطوائف، #الأنبياء_والرسل، #النساك، #حرمون، #موقع_حرمون، #وكالة_حرمون، #هاني_سليمان_الحلبي